عَيشْه ثم يختار منها انسبها له وافعلها في أداء مهمته، فسلوكنا العمليُّ هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا. وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً أنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وانه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.
وأن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه فيقرر أن البطل إذا كان وسيلة ناجعة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع، فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. انظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل انظر كم يبدل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على الأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء احفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.
ولا يقتصر الأمر في ذلك عامة الناس، بل أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الطاقة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته، وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لان تكون تلك الآراء صحيحة إنها توجهنا في حياتنا توجيهاً صحيحاً، فلا يعنينا في كثير ولا قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المشاكل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فان لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.