ولنقف أول ما نقف مع أستاذنا الجارم بك، فقد كان في شعراء الزفاف أبعدهم صوتاً، وأطولهم نفساً، وأشدهم عارضة، وأسمحهم قريحة، وأطوعهم بياناً. لم يرض لنفسه أن يكون (مفرد) القصيد، فأرسل (الجارمية) في أثر (الجارمية)، وكل جارمية تهدف إلى المائة أو تزيد، ولقد أدى ذلك كله بأدائه الجارمي الرائع، ولحنه القوي الحنون، فبلغ من رضا الجمهور والصحافة غاية لا تتجاوز، حتى كان من هذا الرضا أن اتفق الناس على أنه طليعة الشعراء، وأنه جاء كالبعث لما بعد شوقي وحافظ
على أن الجارم لم ينتظر تقريظ الجمهور، وتقدير الصحافة، وحكم النقد، فسبق الجميع بالشهادة لنفسه، وقدر مرتبته فكانت إلى جانب لبيد. . . وازدرى بشاراً حتى أثار الغبار في وجهه. . . وادعى أن (الوحي) قد بادهته آياته ورسائله! واسمع له جانباً من تلك الشهادة إذ يقول مخاطباً الفاروق:
دعوت إليك الشعر فانقاد صعبه ... وقد كان قبل اليوم شُمساً جوافله
وما كدت أدعو الوحي حتى سمعته ... تبادهني آياته ورسائله!
خيال إذا أرسلته إثر (نافر) ... أتت بأعز الآبدات حبائله
ولفظ كوجه الروض في ميعة الضحى ... وقد صدحت فوق الغصون عنادله
إذا قلته ألقى عطارد سمعه ... وساءل شمس الأفق من هو قائله
وإن سارت الريح (الهبوب) بجرسه ... فآخر أكناف الوجود مراحله!
ومهما يكن في هذه الأبيات من الذهاب بالنفس إلى حد الإغراق، فأنا لا أنكر على الجارم بك أن يذهب بنفسه في تقريظ شعره، فقديماً قال شيخنا أبو الطيب:(وما الدهر إلا من رواة قصائدي)
على أني مع الأستاذ الجارم في أنه صاحب خيال يقتنص كل (نافر)، وأن لفظه كوجه