انطلقت إلى (الصخرة) حين لم تجد في دنياها كلها، أحنى عليها منها، وأروح لقلبها. لقد كانت ملاذها والحبيب راض مواصل، والقصر عامر زاهر، أفلا تكون مثابتها وقد غضب الحبيب، وأقفر القصر، ولم يبق لها في الوجود غيرها؟
ولمن تلجأ وقد فقدت صدر الأب الذي كانت تهرع إليه كلما دهتها من الحياة دهياء لم تستطع احتمالها، فتخفي وجهها فيه، وتبثه شكاتها ألماً خفياً، ونشيجاً خافتاً، فيمسح دمع عينيها، ويرقأ جرح قلبها، ويرجع إليها سكينة النفس، وفرحة الحياة. وفقدته إلى الأبد، حين احتوته تلك الحفرة الضيقة على شفير الوادي؟
ولمن تلجأ وقد أغضبت الحبيب، الذي نما حبه في فؤادها، وخالط لحمها وعظمها، ونشأت عليه، وعاشت به، وكانت منبع ذكرياتها، ومجمع آمالها، وغذاء روحها؟
ولمن تلجأ وما في القصر ملجأ ولا ملاذ. . . لقد أقفر من بعد سيده، وضل طريقه إليه المجد، وانصرف عن أبوابه العافون والزائرون، حين انصرف عن مطالب النيل إلى مطارح الهوى ومشارب الخمر، سيده الجديد.
انطلقت إلى الصخرة، وقد علمت لما تيقظ في نفسها الحب أن كل ما في الدنيا من متع المال ونعم الغنى، هو للمحب كأحلام النائم، لا يجد في يده إذا صحا حبه شيئاً منه، وأنها كموائد الرؤى يفيق الرائي فلا يلقى لها في معدته أثراً، ولا في جوارحه خبراً وماذا يفيد العاشق فَقَد الحبيب أن يخطر بغالي الثياب، وأن يأكل أطايب الطعام؟ وهل تدفئ الثياب قلباً فيه رغبة إلى دفء القلب المحب؟ وهل تشبع الموائد نفساً فيها جوع إلى ثمار الثغور، وظمأ إلى رحيق اللمى؟.
ولقد علمت الآن أن صخرة منقطعة مع الحبيب أجمل من قصور الأرض، وساعة معه أطول من سني الدهر، ونومة على فخذه أحلى من نوم على وسائد الحرير بريش النعام على سرير الذهب وشمة منه واحدة أطيب من انتشاق العطور، وأن خفقات قلبه عند العناق أعذب من رنات العيدان، وعبقريات الأغاني. . .