لقد كتبت وأنا متوجه إلى مصر، وقد تحركت بنا الباخرة في ميناء جدة يوم السبت ١٢ ربيع الآخر سنة ١٣٧٠هـ ٢٠ يناير ١٩٥١م، (وداعاً أيتها الجزيرة العربية غير مهجورة ولا مملولة، فليست هذه الرحلة إلا في سبيلك وللاتصال بأسرتك العزيزة المنتشرة على ساحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، أبلغها تحياتك وأرى ما فعلت الأيام بها بعد انفصالها عنك، وما فعلت برسالتك التي حملتها عنك للعالم والأمانة التي تقلدتها، ثم أعود إليك إن شاء الله أحكي لك قصة هذه الأقطار الإسلامية العربية وما شاهدت في هذه البلاد من خير وشر، وما رأيت لأبنائك من وفاء لك وجفاء، بكل أمانة وصراحة، فالرائد لا يكذب أهله، ومن الكذب المهلك والخيانة المردية المجاملة في الأخبار والمبالغة في التفاؤل).
وهذا أوان إنجاز الوعد.
يسرني أن أقول لك أيتها الجزيرة العزيزة أن أسرتك العربية لا تزال تنتمي إلى الإسلام ولا تزال تعتز بعروبتها ولا تزال تنسب نفسها إليك وترد دينها ولغتها إلى منبعهما في ربوعك، ويبدأ تاريخ حياتها الجديدة بيوم أشرق فيه النور من غار حراء فكان الصبح الصادق للعالم، وقد احتضنت هذه البلاد تراثك الأدبي والثقافي وتبنت لغتك وضمتها إلى صدرها وزادت في ثروتها زيادة لا تخطر على بال منك ولا من شعراء جاهليتك، ولا يسعك عليها إلا الشكر والاعتراف بالجميل، وقد كانت هذه البلاد وفية للغتك، وفية لقوميتك، وفية لثقافتك وفية لتاريخك.
وأن أسرتك العربية لم تقطع صلتها في يوم من الأيام عن دينك الذي عاهدتها عليه وأوصيتها به يوم ودعتها وأرسلتها لتفتح العالم وتنقذه من الجاهلية. وكم حاول الحساد أن تقطع هذه الأسرة الكريمة صلتها عن الإسلام وترجع إلى جاهليتها الأولى أو تعتنق الجاهليات الحديثة. وكم زينوا لها الانسلاخ عن عقيدتها الإسلامية والانفصال عن الجامعة الإسلامية، وأن تدين بالقومية العربية والوطنية الضيقة، فلم تكن منها في كل عصر ومصر