شعوران قد تملكا قلب أبي الطيب في رحلته، وأعترف بأني أشاركه فيما: شغفه بالبادية والتغني بمحسانها ولياليها، ومقته للظلم والطغيان، فهو لا يذكر أيامه بمصر إلا مقرونة بالألم والحسرة، ولا يمر بعقبة أو يخرج من أمر مدلهم، إلا عد ذلك نصرا على كافور وظلمه وطغيانه، ولا يترك مناسبة دون التغني بالبادية.
إنك لا تشعر بشعور أبي الطيب إلا إذا عشت بالبادية، ورأيت سماء الصحراء المقمرة أو لياليها التي تسطع فيها النجوم. إنني أذكر ليلة مقمرة في وسط الصحراء كدت أقرأ فيها على ضوء القمر صفحة من كتاب. ولقد تركت هذه الرحلة برغم مصاعبها أكبر الأثر في نفس أبي الطيب، حتى أنه بعد مضي أكثر من سنتين تقرأ له في قصيدة وضعها سنة ٣٥٢ هـ أبياتا تشعرنا بحنينه الذي ملأ قلبه وقت السفر إذا قال يذكر مسيره من مصر ويرثي أبا شجاع فاتكا:
ختام نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه على ساق ولا قدم
ولا يحس بأجفان نحس بها ... فقد الرقاد غريب بات لن ينم
وهو مع ما أوتيه من نصر لتغلبه على الصعاب، يذكر حر الشمس في وسط القيظ، طول أيام السفر في الفيافي فيقول:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم
ثم تجده لا ينسى مدح المطايا التي لولاها لما خرج من مصر بعد ما لقيه من الظلم والعنت فيها:
لا أبغض العيش لكني وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
فكأنه يسير في تفكيره ليستعيد ما مر به من ألمه وأحزانه وهو الذي سبق له أن قال وهو بالفسطاط:
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخب لب الركاب ولا أمامي