كانت مصر خلال العصور الوسطى كعبة لطائفة كبيرة من الرحل والباحثين يفدون عليها من المشرق والمغرب، تجذبهم عظمتها وآثارها وعلومها وفنونها؛ وقد ترك لنا كثير من هؤلاء الرحل آثاراً قيمة عن مصر وأحوالها في مختلف العصور. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء ابن حوقل وعبد اللطيف البغدادي وابن بطوطة، والبلوي، وابن خلدون من الرحل والعلماء المسلمين، ومركوبولو ودي جوانفيل وبيترو مارتيري من الرحل الغربيين. ولم ينقطع ورود هذا الرهط من الرحل بعد الفتح العثماني، بل نلاحظ بالعكس أن الرحل والباحثين الغربيين يفدون على مصر منذ القرن السابع عشر في فترات متقاربة ويضعون عنها المؤلفات والبحوث المطولة؛ ولدينا منهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر ثبت حافل؛ ولدينا من آثارهم مجموعة نفيسة من الوثائق والصور عن مصر في هذه الفترة. وإذ كان العصر العثماني من أغمض عصور التاريخ المصري وأشدها ظلاماً، فإن هذه المجموعة من آثار الرحل الغربيين تعتبر من أهم مراجعنا في دراسته وتصويره.
بيد أنه مما تجدر ملاحظته هو أن القرن الثامن عشر كان بالنسبة للدولة العثمانية فترة انحلال وضعف؛ فقد كانت قواها العسكرية تنهار تحت ضربات روسيا القوية، وكانت الاضطرابات والمتاعب الداخلية تقوض من صرحها القديم الشامخ؛ وكانت مصر في ذلك الحين قد أخذت تتحرك من سباتها الطويل، وتترقب الفرص لتحطم ذلك النير الغاشم الذي يعصف بقواها المادية والروحية منذ قرنين. وفي منتصف القرن الثامن عشر استطاع زعماء مصر، بقية الأمراء من الشراكسة أن يستردوا نوعاً من الاستقلال المحلي، وأن يبسطوا حكمهم الفعلي على مصر، وأن يجعلوا سلطة الدولة العثمانية اسمية رمزية فقط؛ وتعاقب في حكم مصر منهم عدة بدأت بإبراهيم بك ورضوان بك، ثم علي بك الكبير. فمحمد بك أبي الذهب، فمراد وإبراهيم. على أن هذا الحكم الداخلي المستقل كان نوعاً من المغامرة التي لا تستند إلى قوة مادية يخشى بأسها أو تأييد شعبي حقيقي، وكانت مصر عاجزة عن مواجهة الأخطار الخارجية دون معاونة الدولة العثمانية. ففي تلك الفترة التي