وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجِاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
ولم أكد انتهى من إنشاد صاحبي شعر العبسي، حتى تقلص وانفرد، وقد ارتعشت شفتاه، وانفسحت بينهما مسافة مخيفة، انطلقت منها هذه الكلمات تتخلج ولا تتحرج: يأخي، جنبني شر شعرك هذا! فما عدت أومن بما للشعر من قيم وأقدار؛ قلت: أو يؤمن الشعر بمن لا يعرف أواصره وأنسابه؟
قال: أتريد أن تبرأ من هذا الشعر وفيه جودة التصوير والصدق. . . وصاحبي هذا نسيت أن أقدمه لقارئيه، حتى يطمئنوا إلى ما يجري على لسانه من حديث وجدل. . . فهو قد انبعث إلى أوربا بضاعة مزجاة، ثم ردت بضاعتنا إلينا مهوشة مضطربة ككل بضاعة وافدة من هناك، تنكر الفصحى وتتهم ثقافتها، وتعيش بمعزل عن كل ما يقرأ أو يكتب من الميمنة إلى الميسرة، والمعجب والطريف من أمره أن يده اليمنى معطلة، فهو مع شماله دائماً، قارئاً وكاتباً. . . فصاحبي رجل - أعور العقل واليد - ورحم الله الرافعي. . . قلت له: لن أبرأ من هذا الشعر وان كان للعبسي. . . فقد حدثتك نفسك، وهي ذكية، لولا ما يكتنفها من (كثافتك). حدثتك أن جواً خاصاً أعيش فيه يتنفس بهذا الشعر. . . والزمن مهما تراخى، لا بد واصل بوشائج وصلات، بين مظاهر الحياة ومفاتن المجتمع. . . كان ثمت للعبسي روضة وذباب. . . أفتتن بهما، وأفتن في تصويرهما. . . وقد أحتفظ نقدة الأدب ومؤرخوه بهذه الروعة المائلة في هذين البيتين، وظلت تتحدر من قمة الزمن، حتى ترسبت في سفح هذا الجيل، نابضة بالصدق، مزدانة بالتصوير. . .
روضة واحدة كان يغشاها العبسي غردة بذبابها، مخضلة بنداها. أما أنا وأنت يا صاحبي، فأينما اتجهنا، فرياض نواحة بذبابها (الأصيل) مخصوبة بلعابه السام. . . وذباب واحد كان يستهوي العبسي بنشيده الموقع المحبوب، في ضحوة الصبح وصفرة الأصيل. . .
وتسمع للذباب إذا تغنى ... كتغريد الحمام على الغصون