للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من دار إلى دار]

للدكتور طه حسين

قال أستاذ البيان لتلميذه: زعموا أن البيان يعين صاحبه على أن يؤدي المعنى بعبارات مختلفة فيها الحقيقة والمجاز، وفيها التشبيه والاستعارة، وفيها الكناية والتمثيل وفيها ما نعلم وما لا نعلم من الوان الجمال اللفظي، هذه التي عن قصد، وتأتي على غير عمد، كأنما يوحي بها إلى الكتاب المبين. ولكنك تعلم أنا لا نذهب في فهم البيان هذا المذهب، ولا نقصد به إلى هذا النحو، وإنما نذهب به مذهبا اعم من هذا واشمل، كان يذهب إليه القدماء حين كانوا يتخذون البيان وسيلة إلى أداء ما يعرض للكاتب من الأغراض والمعاني في أشد الألفاظ ملاءمة لأغراضه ومعانيه، ولعلك تذكر انهم كانوا يذهبون في تعليم الطلاب فن البيان مذهبا طريفا كثيرا ما كان يضيق به المتكلفون من أصحاب الأخلاق، والذي لا يعلمون إلا ظاهرا من الفلسفة. قال التلميذ: نعم هو هذا المذهب الذي كان يحمل الأستاذ على أن يطرق أمام تلاميذه ويحمل تلاميذه على أن يطرقوا أشد الموضوعات تناقضا وأعظمها اختلافا فيؤدوها كأنهم يؤمنون بها أقوى الايمان، ويقتنعون بها أشد الاقتناع. وكانت هذه بدعة استحدثها السوفسطائية ثم ورثها عنهم أصحاب البيان فلم يغيروها، وإنما أمعنوا فيها إمعانا. وكتاب أرسططاليس في الخطابة حافل بذلك. وقد أبلى الجاحظ في هذا النحو من تعليم البيان بلاء حسنا، وقد ألف أساتذة اللغة والبيان في هذا النحو من الأدبكتبا لا تخلو من لذة ومتاع، فيها مدح الشيء الواحد وذمه، وفيها مدح النقيضين وذم النقيضين، وفيها. . . . قال الأستاذ حسبك، فقد أرى أن أشهر الصيف وما كان فيها من ارتحال وطواف، ومن اختلاف البيئات عليك وترامي أطراف الأرض بك لم تنسك ما أنفقنا فيه من أشهر الربيع من الدرس والبحث، فأنا نريد الآن أن نبتدئ من حيث انتهينا، ونمضي من حيث وقفنا، ونعود إلى ما كنا فيه من التمرين. فاختر لنا موضوعا واحدا يثير الضحك ويثير الرثاء. يثير الشماتة ويثير الرحمة. يبعث في النفوس مرحا وابتهاجا ويملا القلوب كآبة وحزنا، وهو على ذلك كله واحد لا يتغير، وإنما يتغير وجهة النظر إليه ونحو التفكير فيه، وأن الشيء الواحد قد يخالف نفسه ويباينها باختلاف الجهات التي تنظر إليه منها، والطرق التي تسلكها إلى فهمه والوصول إليه. قال التلميذ فأني لست في حاجة إلى أن أجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>