في اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر ١٩١٨ بُعث نبي الوطنية سعد زغلول، وأوحى إليه أن يذهب هو واخوته إلى جون بول يدعونه إلى الحق، كما أوحى إلى موسى أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون يدعوانه إلى الإيمان. وجون بول كان يزعم كما يزعم فرعون أن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته. فقال له سعد قوله اللين لعله يخشى أو يتذكر، فأبى واستكبر، ثم طغى وتجبر، فهدَّد وشرَّد، ثم قتَّل ونكل؛ فسلط الله عليه وحدة الأمة النبيلة فرمته بأُسُودها وأشبالها، بنسائها ورجالها، بصليبها وهلالها؛ فلم يجد بدّاً من التسليم لقوة الروح وسطوة الإيمان وغلية الحق، فنزل عن الحماية، وساوم على الأستقلال؛ فما زالت الأمة تداوره وتصابره حتى استردت حقها المسفوه بفضل الزعامة الرشيدة والرأي الجميع والقلوب المؤتلفة والفرص المواتية
وولي الأمر بعد الرسول الوطني خلفاؤه الأربعة الراشدون، فأحسنوا الولاية ووصلوا الجهاد وصدقوا العهد، حتى بغي مروان، وقُتل عثمان، فشتَّتِ الوحدة، وتشعث الرأي، وتصدعت القيادة، وذاق الناس بعضهم بأس بعض، وحمل كل فرق على كل فريق بالأذى والهُجر، يرميه بالفسوق والمروق، وينبزه بالجبانة والخيانة، حتى أُصيب الرأي العام بنوع من الأَفَن لا يستقيم معه منطق ولا يبلغ عليه جهاد!
هذان سرادقان نصبا في مكانين متقاربين في ساعة واحدة لغاية واحدة، فماذا رأى الرائي وسمع السامع في حفلين أقيما لتمجيد الجهاد والتضحية، وتجديد الاتحاد والألفة؟ رأى فريقين كانا في حومة الشرف وميدان الشهادة إخوان سلاح في معسكر واحد، يتحملون مكاره الرسالة كالأنبياء، ويهشون للقاء الموت كالشهداء، ويجهلون أن لهم أنفساً بشرية تبغي المتاع وتطلب السلطان. فأصبحا بعد النصرِ فرَقاً في يد الهوى، يعادي بينهم الحق كما يعادي بينهم الباطل، ويجري عليهم من أنفسهم أضعاف ما كان يجري عليهم من العدو
رأى ذلك وسمع خطيبين يعبر كل منهما عن رأي فريقه، فلم يدعا في مفردات اللغة كلمة تدل على الفشل والغلول إلا تراشقا بها على تصفيق الأيدي وتصديق الألسن من كل جانب. فإذا أخذت بشهادة كل فريق على صاحبه - ولا يخلو الفريقان من شهود عدول -