أقبل الخليفة على رجل جالس بين يديه يرتدي جبة خزّ قد ابيض شعر رأسه ولحيته، وتدلىّ من عنقه صليب ذهب، ورائحة الخمر تنفح من عارضيه! فقال له: ويحك! من أشعر الناس؟ فأجاب الرجل - وفي صوته رنة الزهو والمخيلة والثقة بالنفس - أنا يا أمير المؤمنين
ولم يكد الشعبي يسمع هذه الكلمة حتى تمعّر وجهه ودارت به الأرض، فذهل للمرة الثانية عن آداب السلوك في حضرة الملوك، فصاح بصوت يقطر غيظاً: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟
ما كان أغنى الشعبي عن هذا السؤال لو انه روّى في الأمر قليلاً! ترى من يكون هذا الجالس بين يدي الخليفة جلسة الصديق المدلّ بمكانته غير أمدح مداّح الإسلام، وأدب أدباء النصرانية، ولسان تغلب ابنه وائل ومدره ربيعة، والمنافح عن البيت الأموي وشاعر أمير المؤمنين أبو مالك الأخطل؟
لم يستطع عبد الملك أن يكتم استعجابه من عجلة الشعبي بالسؤال وجهله بشاعره الفذ وجرأته عليه! ولكنه تكلف الحلم ورمى الشعبي بنظرة نفذت إلى أعماقه قائلاً: يا شعبي، هذا شاعرنا الأخطل
وكان ما حدث كافياً أن يرد الشعبي إلى صوابه ويفثأ من غضبه على الأخطل، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فولّى وجهه شطره - زاوياً ما بين عينيه - وهتف: يا أخطل، أشعر منك الذي يقول:
هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُه ... مُقْتَبل الخير سريع التَّمام
للحارث الأكبر والحارث الأصغر والحارث خير الأنام
خمسةٌ آباؤُهم ما هم، هُمُو ... خير من يشرب صوْب الغمام