ما رأيت شيئاً أضر الحياة وأضر الدين وحال دون شيوعه في الناس مثل ما عطله الإيغال فيه والاستغراق في معانيه حتى يصير بعيداً عن متناول عقول أكثر الناس ومتناول جهدهم المحدود وإحساسهم بالحياة. . .! وينبغي لقواد الاجتماع ألا يخطوا خطوة عامة في رحاب الفكر الاجتماعي إلا وهم مقدرون أن جمهور الإنسانية يستطيع أن يخطوها وراءهم.
وقد كان نتيجة ذلك الإيغال أن حياة أكثر الناس انفصلت عن حياة الدين واتجهت إلى مجرى المادية الصماء - وهو المجرى الظاهري وحده - من غير أن يصحبها الروح السامي الذي يليق بعظمة تفرعاتها المادية وتشقيقاتها.
ولو أن الدين نظر إليه على أنه موقف لازم من مواقف الحياة كالأكل والنوم والرياضة والعلم الخ. . . وساير حياة المجتمع، وفهم على أنه (ركن مادي) فيها لا بد أن تقوم عليه كما تقوم على غيره من دعاماتها كالقانون وحفظ الأمن مثلا، ولم تلتصق به نزعات التصوف والانطلاق الشعري المغرقين، وتصوير موقف الإنسان فيه موقف الفناء والإنكار للنزعات المادية التي تستلزمها الحياة بالجسد، والخروج من الدنيا بالسهر والجوع والزهد واستمراء الآلام قبل الخروج منها بالموت. . . إذاً لسارت الحياة الإنسانية في تناسق بين جانبيها الروحي والمادي.
ولو علمنا أن الحياة صادقة أصدق من تلك النزعات الشاذة التي تجلت في أفراد من المتشائمين، من كل من طلق الدنيا ألماً منها أو زهداً في لذاتها، لتغير الموقف العام، فأن الحياة الإنسانية في مجراها العام أخذت الإنسانية كلها، ونقلتها إلى رحاب الكرامات والتسلط والتسخير عنطريق العلوم الموضوعية ومكارم الأخلاق العملية لا الاستغراقات الذاتية الضيقة.
ولا يغرننا من شذوذ كل أولئك الصوفيين المغرقين ما تركوه من كلام شعري مزوق جميل في طيوف وأشباح وأصداء لوجداناتهم المحرومة المولهة التي تركت طرق الحياة الواضحة، وأرادت أن تدرك الله الأعلى بعقولها المحدودة، فكانت النتيجة الحتمية لذلك المطلب هي بلبلة الخاطر وخفاء البيان واضطراب السير. . .