عجيب هذا القرآن! يقرؤه القارئ ويعيده، ويحفظه ويرتله، ويفسره ويفهمه، ويخيل إليه أنه قد استوعب معانيه، وأدرك مراميه، ويمر بالنصوص بعد هذا مرا عابرا، غير متوقع أن يجد فيها جديدا غير ما فهمه منها ووعاه.
وفجأة يتلو أو يستمع، فإذا إنبثاقات جديدة عجيبة للكلمة وللآية تلتمع في الذهن والحس والقلب، لم تخطر من قبل أبدا؛ وإذا آفاق من التأملات والمشاعر والتأثيرات تتفتح، لا يدري أين كانت مخبوءة في النص الواضح البسيط!
وهكذا يبدو أن رصيد هذا الكتاب العجيب الخالد لا يغني ولا ينتهي، وأن معين الإلهام فيه لا يضمحل ولا يغيض، وأن الدنيا ستظل تكتشف فيه آفاق، كلما استعدت طاقاتها لتلقي ما فيه من إيحاءات:(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
تلك الآية البسيطة القصيرة التي عنونت بها هذه الكلمة (إن إلهكم لواحد). . كم من مرة تلوتها، وكم من مرة سمعتها، وكم من مرة ضمنتها. . ولكنني أنتفض فجأة على لمسة منها لروحي وحسي ومشاعري جميعا. لمسة لم أعهدها من قبل فيها، على طول صحبتي للقرآن، وعلى طول عيشي في ظلال القرآن. .
[إن إلهكم لواحد. .]
إنه مفرق الطريق في حياة البشرية. . أنه الانقلاب الأكبر في خط سيرها الطويل. . الانقلاب من العبودية إلى الحرية، من الخوف إلى الأمن، إلى الهدى والنور والنظام. أنه إعلان وجود الإنسان، الذي لا يستذل لإنسان مثله، كائنا من كان.
وإنني لأنظر إلى البشرية في تاريخها المتطاول، قبل أن توحد الإله، فأطلع على صحائف من الهوان، وعلى أودية من الحيرة، وعلى ألوان من القلق. . الأوهام تسحقها، والمخاوف ترهقها، والعبودية تطحنها. . وإن هي إلا جملة واحدة. جملة مشحونة بما يملأ صفحات وكتبا. بل بما يشغل أجيالا وقرونا. جملة واحدة تغير وجه التاريخ، وطبيعة الحياة، وضمائر الملايين، وعلاقات الأفراد والجماعات؛ وتلغي كتاب البشرية كله لتخط صفحة خالدة في كتابها الجديد. .