كانت بيئة ظلت عليه بما يشتهي، وحرمته أكثر ما يطلب وقيدت قدميه فما يستطيع أن يندفع، وطوت جناحيه فما يستطيع أن يطير. . . ولم يكن واحداً من هؤلاء الذين يرضون بالقيود ويخضعون بالأصفاد، ولئن رضى بالأولى وخضع للثانية في تلك الفترة التي يتنزى فيها شباب الروح والجسد، فلأنه كان نتاج مجتمعه ووليد بيئته. ومن هنا اشتكت روحه وتعذب جسده وضجت بخيبة الرجاء أمانيه!
اشتكت روحه من وطأت القيد وسطوة السجان، وتعذب جسده من قوة الغريزة وغلبة الحرمان، وضجت أمانيه وهو يتطلع إلى الأفق البعيد وبين جنبيه رهبة المشفق من مستقبل مجهول. . . وانعكس هذا كله على فنه: أنات متصلة ينقلها إليك شعر تكاد تشم فيه رائحة الدموع؛ شعر مظلم إن عثرت فيه على البسمة المشرقة فهي التماعة البرق الخاطف في سماء داكنة، تظلل حواشيها ألوان من السحاب والضباب! واستمع إلى هذه الشكاة الأولى في الصفحة الثالثة والثلاثين من (الملاح التائه) من قصيدة عنوانها (غرفة الشاعر):
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ... وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر ... وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى ... في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناصب به حر أنفاسك ... يطغى على ضعيف أنينك
لست تصغي لقاصف الرعد في ... الليل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمت ... ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب ... يهفو إليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل ... تبكي الحياة من الأرماق
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض ... وحطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليل ... وما زلت سادراً في مكانك
ليس يحتوي الدجى عليك ولا ... بأسى لتلك الدموع في أجفانك