من أعجب الحقائق التي تقوم عليها الحياة في الجماعات الإنسانية أن جملة آرائها وعقائدها وغاياتها، هي آراء موتاها وعقائدهم وغاياتهم، وكل أمة تعرف ضرباً من تحكم الموتى في حياة الأحياء. ومن أمثلة ذلك: الوصية التي يتركها الذين يرحلون عن هذا العالم الفاني، ويخلفون بها ما لهم لهذا أو ذاك، بلا شرط أو بشرط يحتمون على الوارث التزامه. ومن أمثلته عندنا الوقف الذي تبقى شروطه نافذة جيلاً بعد جيل، ولا يكاد أحد يملك تغييراً لها، أو يعرف له حيلة فيها إلا النزول على حكمها. وكل من يعرف شيئاً من التاريخ لا يسعه إلا أن يفطن إلى سيطرة الماضي على الحاضر، وإلى أن عقول الذاهبين هي التي تسير الأحياء، أو تقيدهم كما يقيد الواقف ورثته ويحدّ من تصرفهم فيما يخلّف لهم. وأضرب مثلاً قريباً لهذا ما نزال نقرأه في الصحف ونسمعه من أفواه الناس، من قولهم:(مبادئ سعد). وقد أنتقل (سعد) إلى رحمة ربه ونفض يده من شئونها، وخلا قلبه من همومها وآمالها، ولكن يده لا تنفك تمتد من ظلمة القبر، وتدير الرؤوس إلى هنا وههنا. وليس من همي في هذه الكلمة أن أستقصي كل مظاهر هذه الحقيقة الثابتة، فان حسبي أيسر الإشارة إليها، وفي مقدور كل قارئ أن يتوسع كما يشاء في رد حاضر الجماعة إلى ماضيها القريب والبعيد. وكل ما أريد أن أقوله هو أن كل ما تنطوي عليه الجماعة من آراء سياسية أو اجتماعية، وما لها من عادات وخصائص، له تاريخ طويل، وان كل جيل يجيء يتلقى هذا الميراث عن سلفه، وأن التغيير الذي يقع لا يكون في العادة إلا بطيئاً. وكثيراً ما يخفي أمره حتى على الذين يكونون أداة له، ولكنه يتفق أحياناً أن يقع للجماعة حادث أو حوادث ترج كيانها وتزلزل قواعد حياتها وتفكك الإطار الذي يحيط بصورتها الثابتة، وتبث صلتها - إلى حد ما - بماضيها الطويل، وتغريها بالتماس طابع آخر غير الذي درجت عليه، وتدفعها في اتجاه جديد، بروح جديدة، وخصائص لا تطابق كل المطابقة ما كان مألوفاً ومعهوداً فيها.
وقد حدث هذا في مصر مرتين فيما أعلم، فأما في المرة الأولى فكانت الرجة التي أحدثت الانقلاب السياسي والاجتماعي سببها الثورة التي قامت في سبيل الاستقلال، وهو انقلاب بعيد المدى ما على من يشك فيه إلا أن يرجع البصر إلى ما كانت عليه حياتنا معشر