للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المصريين قبل هذه الثورة، وما صارت إليه بعدها؛ وقد تناول كل وجه من وجوه حياتنا السياسية والاجتماعية، ولم يسلم منه شيء. وقد كان من الممكن أن يقع هذا التحول بغير حاجة إلى زلزلة الثورة ورجاتها العنيفة، ولكنه كان خليقاً أن يكون بطيئاً جداً، وغير محسوس، وعلى أجيال طويلة؛ غير أن الثورة القومية عجلت به، من حيث نشعر ولا نشعر، فأصبحنا فإذا نحن أمة أخرى، لها في الحياة آراء جديدة، وعزمات لم تكن معهودة، وآمال وهموم ومساع لا نكران أنها كانت تدور في نفوس البعض، ولكن السواد الأعظم كان ذاهلاً عنها، وقد لا تكون هذه الثورة التي انطلقت من عقالها في سنة ١٩١٩ سوى موجة صغيرة من ذلك البحر الأعظم الذي أزخرت الحرب تياراته ما فتئنا نرى فعلها وأثرها في أمم أخرى كثيرة غيرنا، ولكن هذه الموجة الصغيرة كانت حسبنا، وقد جاءت بالاستقلال آخر الأمر، ولكنها جاءت بشيء اخر، فكانت ختام عهد في حياة الأمة، وبداية عهد غيره له طابع مختلف جداً.

وهنا موضع الكلام في المرة الثانية، وبها يتم التحول الذي بدأته الثورة.

كانت قيادة الأمة في الثورة التي استعرت في سنة ١٩١٩ للشيوخ، وكان الزمام في أيديهم، وكان العبء السياسي في كواهلهم، وكانوا ولاشك يمثلون آراء البلاد واتجاه النفوس فيها، وقد فازوا لأمتهم بما كانوا ينشدون لها، والذي جادوا به هو الذي قدروا عليه، ولو كان في الوسع مزيد لزادوا، ولكنهم تولوا أمراً لا يسعهم فيه اكثر مما وقفوا إليه. وقد أصبحنا بذلك أمة مستقلة، ولكنا أصبحنا بهذا أيضاً أمة محتاجة إلى مثل عليا جديدة، ومساع غير تلك التي بلغتنا هذه القاصية - قاصية الاستقلال - وقد كنا خلقاء أن نشعر بالحيرة والارتباك لو لم يقع ذلك الحادث الجديد الضخم في حياتنا، وهو ارتقاء الملك الشاب فاروق الأول عرش البلاد. ذلك أن شيوخ الأمة لا يستطيعون أن يمثلوا اكثر مما مثلوا، ولا يسعهم في العهد الجديد أن يكونوا رمز الآمال الجديدة التي أنشأها تغير كياننا السياسي

لقد صرنا أمة حديثة، كأنما أفاض عليها الاستقلال ثوباً من الشباب النضير، فهي أحس بفيض الحياة وقوتها منها بما خلعت ونضت من الهلاهيل التي كان الاستعباد يكسوها، وما صدعت من القيود العارقة التي كانت تقعد بها عن السعي وتلزمها سكون الوهن وعجز الشيخوخة. والأمم في مثل هذه الحالة يقل صبرها على حكم الأيدي التي تمتد من وراء

<<  <  ج:
ص:  >  >>