كان العراق ما خفنا أن يكون، وجاءت الأنباء بأن بكر صدقي باشا رئيس أركان الحرب في الجيش بوغت في مطار البصرة وهو يتهيأ للسفر إلى تركيا برصاصات أطلقها عليه جندي، وهم قائد القوة الجوية بأن يدفع عن صديقه فلحق به، ولقي حتفه مثله فحملت الجثتان في طيارة إلى بغداد حيث دفنتا، وأبى الجندي الذي اغتالهما أن يفضي بشيء عن بواعثه على هذه الجريمة؛ وأرجح الآراء أن الاغتيال سياسي، وأنه إحدى نتائج الانقلاب العسكري الذي قام به المرحوم بكر صدقي باشا في العام الماضي، والذي عصف بالوزارة الهاشمية وشرد رجالها، والذي كان من ضحاياه المرحوم جعفر باشا العسكري وزير الدفاع يومئذ. وفي الأنباء الواردة عن الحادث الجديد أن الجندي الذي أردى بكر صدقي كان يصيح وهو يفرغ رصاصته في صدره:(يا لثارات جعفر) وسواء أصح هذا أم لم يصح، وكان الرجل قد أطلق هذه الصيحة أو لم يطلقها، فإن المحقق أن الأمر أمر انتقام، وأنه بعض رد الفعل لذلك الانقلاب العسكري المفاجئ الذي أحدثه بكر صدقي، فقد كان للوزارة الهاشمية أنصارها ولرجالها شيعتهم، وللعهد الجديد خصومه؛ وبعيد أن يكون الجيش كله - بأجمعه - قد رضي عما وقع، وارتاح إلى التدخل لقلب وزارة وإقامة أخرى، وسره أن يغتال جعفر العسكري ويدفن حيث لا يدري أحد، وأن يكون قتلته معروفين ولا يسألون عما اجترحوا؛ وغير معقول أن يكون الشعب العراقي قاطبة حامداً شاكراً، قانعاً، راضياً مطمئناً، فإن هذا مطلب عسير، وغاية لا تنال؛ ومتى بدأت تجيز لنفسك أن تقتل، وأن تستخدم القوة بعد إحكام التدبير في الخفاء، في تحقيق مآربك - كائنة ما كانت - فقد أجزت هذا لسواك، وأغريتهم بأن يحتذوا مثالك ويقتاسوا بك؛ ومتى أمكن أن يأتمر جانب من الجيش بوزارة، فإن من الممكن أن يأتمر جانب آخر منه بوزارة غيرها، لأن الأصل - والواجب - أن يبقى الجيش بمعزل عن السياسة والأحزاب والوزارات، وألا يعرف إلا وطناً يدافع عنه ويذود عن حقيقته حين يدعى إلى ذلك، فإذا زججت به مرة واحدة في السياسة، فقد أغرقته في لجها المضطرب إلى ما شاء الله؛ وعزيز بعد ذلك أن تصرفه عنها