للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وقفة على جسر إسماعيل]

للأستاذ عبد الحميد العبادي

إذا حق لبغداد أن تباهي في غابر أيامها بلدان العالم بجسرها الأكبر الذي كان معقوداً فوق دجلة، والذي يقول فيه علي بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

وإذا كانت (فروق) عاصمة الترك من آل عثمان تذوب حياء وخجلا كلما أنشد قول شوقي في جسرها المتهدم المتساقط:

أمير المؤمنين رأيت جسرا ... أمر على الصراط ولا عليه

فمن حق القاهرة أن تسحب الذيل تيها وافتخارا بجسر إسماعيل فهو من غير شك أعظم من جسر بغداد وأروع، وهو لم يظفر بمثله بلد عظيم ظل متبوع مصر أحقابا طوالا.

أنشدتك الله أيها القارئ، إلا ما وقفت مرة بذلك الجسر في أي وقت شئت، وعلى أي حال كنت. قف بكرة، أو ضحى، أو أصيلا. قف في الهزيع الأول أو الثاني من الليل. قف صيفا، أو خريفا، أو شتاء، أو ربيعا. قف فتى مقتبل السن، أو كهلا قد توسط الحياة، أو شيخا نالت منه السنون، فأنا زعيم لك بأنك وأجد جمالا يملأ الجوارح، وحسنا يستغرق العقل. هنا الجمال! هنا الروعة! هنا الفتنة! هنا قطعة من رياض الجنة، أهبطها الله الأرض ثم أباحها الناس جميعا، يستمتع بها الغوي والمهتدي، والمقتصد في أمره، ومن كان على نفسه مسرفا. جسر رشيق التكوين، موزون الأبعاد، يساير الشمس من مشرقها إلى مغربها، والقمر من لدن بزوغه إلى أفوله. فان غابت الشمس وأبطأ القمر فللمدلج الساري عوض عنهما في السرج الوهاجة القائمة على جانبيه ترسل نورا هادئا لينا لا يفرق البصر ولا يحسره. حتى كأن الكواكب قد دنت فتدلت، فاختار منها مهندس ذلك الجسر ما شاء، ثم نظمه سمطين على حافتيه.

ثم هولا تهدأ عنه الرجل ساعة من ليل أو نهار. ففي النهار ترى أفواج الساعين في الأرض تتدافع فوقه بالمناكب والمراكب. فإذا تصرم النهار، وطفلت الشمس للغروب، رأيت المستروحين المتنزهين يغشونه زرافات ووحدانا، يلتمسون طيب الهواء، وجمال المنظر، وبهجة الخاطر. فإذا اختلط الظلام وأرخى الليل سدوله بات الجسر مسترادا ومذهبا

<<  <  ج:
ص:  >  >>