لقصاد الجزيرة من العابثين اللاهين، والعشاق المدلهين. سيماهم حديث مغمغم، ورؤوس متساندة وأصابع مشتبكة، وخطى مضطربة، قد لفهم الليل من نور القمر أو المصباح في مثل الكلة المخرمة تبين ما اشتملت عليه وتستره، وتخفيه وتظهره، على أن كلا آمن مطمئن كأن تلك الأسود المقعية عند طرفي الجسر أرصاد موكلة بحراسة الجسر ورواده.
ثم ارم ببصرك ذات اليمين وذات الشمال. فهذا النيل اكثر انهار الأرض بركة، وأحفلها بالذكرى، ينساب مترفقاً، يصافح متنه نسيم الشمال فيحيله وشياً منمنماً، وتصب عليه الشمس أشعتها الفضية والذهبية فتحيله تارة لجيناً سائلا وأخرى ذهبا مذابا. حتى إذا غربت الشمس وتألق الأفق وانعكست فيه صور النجوم والمصابيح التي تكتنفه من كل نواحيه، رأيت المجرة بين يديك، إن شئت خضتها خوضا، وان شئت لججت فيها تلجيجا.
وهذه الجزيرة تعترض الأفق الغربي بنخلها الذاهبة في السماء، وأشجارها الجاثمة على الأرض، وبنورها الضاحك وطيرها الصادح كأنما هي حجة بليغة على ما بقبالتها من معاهد وديار يهيب بها كل ما حولها أن (ليس هذا بعشك فادرجي) ومع ذلك فقد أعدت هذه الدار والمعاهد عدوى الحسن المجسم أمامها فأكسبتها رقة مدنية، وخلعت عليها مسحة من جمال تعرفها في الدار والديار.
كل جزء من أجزاء هذا المنظر الفخم يسر إليك نجوى، ويتلو عليك نبأ. فهذا الجسر يصور لك الحياة معرَّفة بين نكرتين، ومعلوما بين مجهولين. وهذه الخلائق التي تتصرف فوقه آناء الليل وأطراف النهار، عملا، واستراحة، ولهوا، كأني بها تحدثك بأن لا بأس علينا من أعمالنا متى صدرت مطاوعة لحاجات نفوسنا. وهذه الجزيرة التي يبدو لك بالنهار نخلها وشجرها عرائس تونق العين وتفتن القلب، فإذا أظلم الليل تراءت فوق الأفق شخوصا وأشباحا توحشك وتروعك، كأني بها تفضي إليك بان للظواهر دون الحقائق الأثر الأقوى في توجيه حكمنا على الأشياء. وهذه الثكنات الغاصة بالجند والملأى بالسلاح، ما عبرتها وما بيانها؟ استمع إليها تخبرك لمن كانت أمس، ولمن هي اليوم؟ وتنشدك قول شجرة عدي بن زيد:
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالا بعد حال