نشأت جامعة الدول العربية، وكان نشوءها ضرورياً وإن أشار به (إيدن). وقامت دولة الباكستان الإسلامية، وكان قيامها طبيعياً وإن سعى له (مونتباتن). تلك لأن العروبة في يقظة، وهذه لأن الإسلام في انبعاث. ويقظة العروبة هبة من الروح العالمي الذي دفع الأقوياء إلى الحرب، والضعفاء إلى التعاون، والأشتات إلى الوحدة؛ وانبعاث الإسلام أثر لتناقض المذاهب وتعارض الشرائع وافتقاد الإنسانية لذلك النظام الإلهي الذي يسدد خطاها ويحفظ عليها قواها. وما كان فضل إنجلترا في هذين الحدثين العظيمين إلا فضل القابلة: سهلت الولادة ولكنها لم تخلق الوليد. وسيحذو المسلمون في الصين حذو المسلمين في الهند وإندونيسيا، فتنشأ الدولة الإسلامية الثانية في القوة والعدد؛ ثم تنكفئ تركيا إلى الشرق، ويرجع ساستها إلى الإسلام، فيكون منها لكتلة الدولة المحمدية روح ومدد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، إذ يرون كلمته هي العليا، وعقدته هي الوثقى، وحزبه هو الغالب.
فالجامعة الإسلامية، أو البانسلامزم كما يسميها الغربيون، هي الغاية المحتومة التي ستتوافى عندها أمم الإسلام في يوم قريب أو بعيد. ذلك لأنها النظام السياسي الذي وضعه الله بقوله:(إنما المؤمنون أخوة)، ثم شرع له الحج مؤتمراً سنوياً ليقوي؛ وجعل له الخلافة رباطاً أبدياً ليبقى. وهذا النظام الإلهي أجدر النظم بكرامة الإنسان، لأنه يقوم على الإخاء في الروح، والمساواة في الحق، والتعاون على الخير، فلا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين طبقة وطبقة.
وظلت الجامعة الإسلامية، في ظلال إمارة المؤمنين وإمارة الحجيج، قوية شاملة حتى خلافة المتوكل؛ ثم وهي السمط فانفرط العقد، واضطرب اللسان فتفرقت الكلمة. فلما تبوأ الترك عرش الخلافة استطاعوا أن يبرموا الخيط ولكنهم لم يستطيعوا أن ينظموا فيه الحب. فبقى المسلمون عباديد لا ينظمهم سلك ولا تؤلف بينهم وحدة. ثم أدركت الشيخوخة دولة العثمانيين في أواخر القرن التاسع عشر، فتعاوت على جسدها الواهن المنحل ذئاب الغرب، فلوح لهم عبد الحميد بالجامعة الإسلامية ذياداً عن ملكه، فهروا هرير الكلاب المذعورة، وصور لهم هذا الذعر أن الجامعة هي التعصب وسفك الدماء، فصدقوا وهمهم وكذبوا الواقع. وكان الاستعمار يومئذ قد توقح وفجر، فنشأت العصبية الوطنية في الأقطار الإسلامية لدرء خطره، أو تخفيف ضرره؛ والوطنية لا تعارض الجامعة، ولكنها تفارقها في