أصبحت اليوم خاثر النفس لَقساً، فتركت عملي وركبت (الترام رقم ٦) الذي يجوز بداري ثم يذهب فيخترق (الغوطة الشرقية) - حديقة الأرض - حتى ينتهي إلى (دوما). فنزلت على ابن عمٍ لي فيها طبيب، فلم ير أبلغ في إكرامي من أن يحملني في سيارته إلى (القصير) فيجمعني بإخواننا الكرام ساكني تلك الديار. ولم يكن الدخول إلى (القصير) سهلا ولا ميسوراً، وما كنّا نطمع أن يؤذن لنا به، فجعلنا نطيف بتلك الحدائق الواسعة الجميلة فما راعنا إلا القوم قد ملئوا الحدائق، خارجين إلى النزهة والعمل فجعلنا نكلم من نراه منهم من وراء الدرابزين فنسمع عجباً كما نرى عجباً. فمنهم من هو نائم على وجهه؛ ومنهم من قائم على رجل واحدة؛ ومنهم من يرسم في الهواء دوائر وهمية، ويكلم أشباحاً لا ترى؛ ومنهم من هو باك منتحب ثم لا يلبث أن يضحك حتى يكركر من الضحك. . . وما ظنك بسكان القصير؟
وكان أعجب ما شهدنا من العجب رجلاً عارياً إلا من خرقة تستر عورته، ولحية له طويلة عريضة تبلغ والله سّرته وتحجب صدره. حقيقة أقول لا مبالغة ولا مجازاً، وقد انتحى ناحية من حدائق (المارستان) ثم مشى فيها مقبلاً مدبراً متبوعاً عجلا، فقلت لابن عمي: تنح بنا عنه وتنكب طريقه، فربما بطش بنا. . . وإني لأرى جسماً قوياً، وعصباً مشدوداً، وما في كل من رأينا (أو ما رأينا فأننا نتحدث عن المجانين) من هو أظهر منه جنوناً، وأبدى حماقة. . .
قال: عجباً منك! هذا الشيخ فضل الحموي!
قلت: بل منك والله العجب. . . أتراني سائلاً إذا هشم أنفي وهتمت أسناني، أفعل ذلك الشيخ فضل الحموي أم الشيخ محمد المغربي؟ حسبي منه أنه مجنون. . . فعدّ بنا عنه!
قال: إذن يذهب سعيي باطلا، فما حملتك في السيارة وجئت بك إلى هذه الديار، إلا لأريك الشيخ فضل الحموي؟