تكلمنا قبل هذا عن الحرية في الوجودية من وجهة النظر المتانيزيقية. ونحاول الآن أن نحدد خصائصها على نحو واقعي في المذهب الأخلاقي الوجودي إن صح أن للوجودية أخلاقا بمعنى الكلمة. والذي يتبين لنا من أول الأمر أن المذاهب جميعاً في فرنسا - وليست الوجودية فحسب - تحاول أن تقدم للناس في هذه الفترة الحديثة نظريات أخلاقية مختلفة بالإضافة إلى ما تقدمه من التفسيرات الفلسفية والفكرية وما يحلو لها أن تذيعه من الأصور والآراء. بل إن الجانب الأخلاقي يطغي على كل ما عداه من الجوانب الأخرى في فلسفات الفرنسيين المحدثين، ويظهر تشكل واضح بين الأنظار الكثيرة حتى لتحسبه الأوحد من بينها في الأهمية والخطورة. ولعل الحياة الفرنسية اليوم هي التي تتطلب هذا كله وتقتضي من كل مذهب فكري أن ينحرف في هذا الاتجاه تبعاً للحاجة الأصلية في نفسية الأمة والعوز الروحي في تكوينها الحضاري. أو لعل الصلة القوية التي يحس بها الفرنسيون بين حياتهم المادية وأنظارهم العقلية، أو بين وجودهم ومعرفتهم، على حد تعبير الفلاسفة، هي التي تلج عليهم وتدفعهم دفعاً إلى إنكار مجموعة من القواعد الوضعية التي تلائم ما في نفوسهم من ثورة وما في قلوبهم من ارتياع.
وتأتي الحاجة إلى مثل هذا الاتجاه في نفسية الأمة الفرنسية من أنها ظلت أمداً طويلاً تمثل الأمة المفكرة وتقوم بدور الشعب الفيلسوف وتخسر في سبيل ذلك كله غير قليل من الجاه والسطوة العمليين في الحياة: فكما أن الأديب الذي يشغل نفسه بمسائل الفن ويملأ عقله بالتأملات الروحية بعيد كل البعد عن نطاق الواقع المحدود وآفاق العمل اليومي، بقيت فرنسا - وهي دولة الفكر الأولى - غارقة في التخيل والنظر العقلي، زاهدة في الأفعال الواقعية المنتجة، مدفونة بين صحائف الشعر وسكرات الليل وظلمات القبور. وجاءت الهزات متتالية في الميدان السياسي، وتدخلت الظروف على أسوء نحو في المعيشة الفرنسية فجعلتها ضرباً من المأساة التي يعاني صاحبها أكثر مما يعاني العائم بين أشواك الورد. وتطلع الناس من جراء هذه الخيبة المتكررة في حياتهم إلى نوع من الخلاص كما