[المتنبي وسر عظمته]
للأستاذ عبد الرحمن شكري
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
إذا قرأ القارئ قول المتنبي:
وخِلة في جَلِيسٍ ألتقيه بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوَهنِ
وكِلمةٍ في طريقٍ خفت أعرابها ... فيهتَديَ لي فلم أقدر على اللحن
كم مخلص وعُلًي في خوض مهلكة ... وقتلة قُرِنَتْ بالذم في الجبن
لا يُعْجبَنَّ مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفيناً جودة الكفن
أحس بما تدعو الحياة إليه من تقيد النفس بقيود التجانس حتى ولو كان فيها قهر أنبل عواطفها ونوازعها، وأحس بالمعركة التي تدور في النفس بين نزعاتها من رضاء وإباءٍ وتسليم وثورة، والتذ مشاركته الشاعر في تلك المعركة النفسية حتى ولو كانت المشاركة بالعقل الباطن والقراءة بالعقل الظاهر. وهو يحس هذا الإحساس إذا قرأ قوله:
واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضوي به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجةٌ لا جئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميِّتٍ إِيلام
وهو أيضاً يضع نفسه موضع نفس الشاعر في تلك الرحلة النفسية التي يلتذها بالقراءة إذا قرأ قوله:
وما أنا منهمُ بالعيش فيهمْ ... ولكنْ معدن الذهب الرغام
خليلك أنت لا مَن قلت خِلِّي ... وإِن كثر التجمُّل والكلام
ويزداد اعتداد المتنبي بنفسه، فلا يزداد القارئ إلا لذة ببيانه عندما يقرأ قوله:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
عِشْ عزيزاً أو متْ وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
واطلب العز في لظى ودع الذ ... ل ولو كان في جنان الخلود
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غريب كصالح في ثمود