وكذلك عندما يقرأ قوله:
ومِن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بِيَ جاهل
ويجهل أني مالك الأرض مُعسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
تحقر عندي همتي كلَّ مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغث أن تغث المآكل
والبيت الأول يدل على تفكير طويل في أنواع جهل النفوس بالنفوس، وهو موضوع عميق كعمق الحياة، ومجاهل أعماق النفس والحياة كمجاهل أعماق المحيط. وكذلك إذا قرأ أبيات المتنبي التي يخاطب بها أسد الفراديس ويدعوها فيها إلى محالفته، سار القارئ في رحلة نفسية خيالية في عالم البيان الشعري، حيث يود الشاعر أن يؤلف الوحش وأن تألفه، كما حدثوا عن الشنفري الشاعر. وإذا قرأ القارئ قول المتنبي:
عدُوِّي كل شيء فيكِ حتى ... لخلت الأُكم موغورة الصدور
فلو أني حُسدْتُ على نفيسٍ ... لجدْتُ به لذي الجد العثُورِ
ولكني حُسِدْتُ على حياتي ... وما خير الحياة بلا سرور
كان قد بلغ من تلك الرحلة النفسية قفراً موحشاً تختلط فيه الحقيقة بالخيال في نفس بلغت من النفرة من الناس والشك فيهم مبلغاً يجعلها تشك في الجماد، وتخاله موغر الصدر كالناس، وهذه حالة حقيقية في النفس، وإن اختلطت فيها الحقيقة بالخيال، وهي من الحالات النفسية التي يجيد المتنبي وصفها كما قال:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينيه حتى يرى صدقها كذباً
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صباً
ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنباً
ويتبع القارئ الشاعر في رحلة التجارب النفسية حيث يقول:
فلا تَنْلكَ الليالي إن أيِدِيَها ... إذا ضربن كسرْنَ النبع بالغرَب
ولا يُعنَّ عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وإن سررْن بمحبوب فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
وربما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمر غير محتسبِ