للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[السكون في الظلام]

للأستاذ أحمد أمين

ما ألذه، وما أهنئه، وما أحلاه!

يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب

فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم - وإذا كان كل الناس في حاجة إليها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناه مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطروا من عصارة عقولهم

وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن، وصحة التفكير، وجودة الإنتاج - فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها عين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها، لا بنفسها -

لا وردة تفتن بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى اصلها منعماً بظلامه وسكونه، فإذا أقلقًتَ مضجعها، وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها

وكذلك كل حي لابد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء. دع الحي يحيا أياماً من غير نوم تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي

وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبهاً نائماً، وشاعراً حالماً، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، يتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه الفكرة الناضجة، أو الخَطْرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة؛ فتكون خيراً من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب

قرأت مرة أن متعلماً كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكراً فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>