حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ، فقال له أستاذه: ومتى تفكر، وأين تجد نفسك؟
وهو سؤال له دلالته ومغزاه، فاكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون ويفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم
ولأمر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم (يخلوا بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)
في غار حراء حيث السكون والظلام. بعيداً عن الخلق قريباً إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، ووجد نفسه فوجد ربه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيا للوحي فنزل عليه الوحي
لكَمْ تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خانقات في أمكنه نزهة منقطعة، ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يَسْتجِم نفسه، ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدينة، وجلبة الحياة العصرية - تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويُبعْث إلى العالم خلقاً جديداً كما يبعث النوم الحياة - إذَنْ لقلّت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب - وإذن لقلّ إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشؤونها، فإذا تجرد المرء منها زمناً وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته - وإذن لقلة مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر
لقد اعتاد الناس أن يفروا من متاعبهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم ولا تفيد - كثيراً - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدينة وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحاً في العلاج النفسي والروحي - إنما يغني هنا الغناء أنواع من المعاهد والمؤسسات قد بني على أساسٍ