نفسي وروحي لا يعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، يربح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، ويسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات. فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة. وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها
في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء، على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بإذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في تحريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها - فكأنه منح من الحواس ضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته - وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله ويثلم ذوقه، فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت، ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا اقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون، ولئن كانت عيننا البصيرة لا تبصر إلا في ضياء، وأذننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما نستعين بالضوء والهواء
إني لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين يقضون نارهم في وظائفهم وأعمالهم. ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضاً لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم. ثم لهو قليل ونوم، واعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل، ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما اعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله:(وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وقوله: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق على الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان، ومصدر الإلهام
في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس