ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركاً حامي الوطيس، بين دولة صغيرة، قليلة العدد، قليلة العُدد، ضئيلة الموارد، كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يزجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات؛ لها من كل أولئك مقنع وليس لها من وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقد ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور، ولو إلى حين - أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة - ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء، لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة، وتركلها كلما غربت الشمس ركلة. وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء. وتلون لها من المهانات ما أجراها مثلاً للخزي على ألسن العالمين
لعمري ما وقع حدث من هذه الأحداث إلا اذكرني سير العرب السابقين، وأحضرني شأنهم في فتوحهم ومغازيهم. فلم يكن هؤلاء في الأكثر الأغلب أكثر من عدوهم عددا، ولم يكونوا أقوى منه عددا، ولم يفوقوه في تنظيم الجيوش وتنسيق الكتائب، وتدبير المكايد، وإحكام خطط الحرب، وتدبير وسائل الكر والفر؛ بل لقد كانوا أضعف وأهون شأناً في كل أولئك جميعاً! ومع هذا فإنهم ما صارعوا إلا صرعوا، ولا قارعوا إلا قرعوا، ولا شدوا إلا ظفروا، ولا حملوا إلا قهروا، ولا هجموا إلا انتصروا؛ ففتحت بين أيديهم أبواب المعاقل، ومهدت لهم السبل إلى أمنع المدائن، وحشدت لهم أضخم الغنائم، واستأسر لهم من المقاتلة أضعاف أضعافهم في يسر، بلغت عين الدهر. وكذلك لم تجهد دورة الفلك إلا قرناً واحداً حتى دانت لهم مناكب الأرض، وذلت نواصي البر والبحر!