إذن لم يظفر العرب، في حروبهم، كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد، وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عدوهم عدداً، ولا أمضى سلاحاً، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها؛ بل لقد علمت أنهم كانوا دائماً دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه التشبيه ولا يصح معه القياس
وبعد، فلعمري ما مشى النصر بين أيديهم أنى قاتلوا في شرق الأرض وفي غربها، بالغاً ما بلغ من الضآلة عددهم، وواقعاً حيث وقع الضعف سلاحهم، إلا بأسباب ثلاثة:
١ - الأيمان ٢ - الرحمة ٣ - العدل
فالإيمان ييسر على النفس التضحية، مهما جلت، بل لقد يغري بها ويدفع إليها في المطلب الجسام.
ولا ننس أن من أثر الأيمان بناء النفس على الصبر عند معاناة الشدائد وخوض المكاره، فإن إصابة الغرض الذي يدفع المجاهد إليه إيمانه لحقيقة بأن تحد من عزمه، وتشد من متنه، فلا يعتريه خور ولا خذلان، وأنت خبير بأن الصبر هو مفتاح النصر، وصدق من قال: الشجاعة صبر ساعة، والأمثلة على هذا مما لا يحيط به الحساب!
وبعد هذا أحسب أن العجب قد أخذ فيك بادئ النظر، من نظم الرحمة والعدل في أسباب الظفر في الحروب والتنكيل بالأعداء، والواقع أنهما قد يكونان أمضى من السيف في كسب الحروب، وذلك بأن القسوة وغلظة الكبود لا تجدي على المقاتل شيئاً البتة، بل إن شهرته بين مقاتليه بالرأفة إذا تمكن، والمعدلة إذا حكم، لما يخزلهم عن الاجتهاد في قتاله، ويشيع فيمن وراءهم قلة الاستحماس لهم وثقل القادرين على القتال عن نجدتهم، بل لقد يرجون النصر لهذا العدو ليخرجوا من ظلمهم، وينعموا في ظلال حكم ملائكة الرحمن والرقة والعدل والإحسان
وكذلك ساد العرب الدنيا، وما هداهم إلى هذا إلا دينهم العظيم. . .
والشواهد على هذا في حروب المسلمين مما لا يبلغه كذلك الإحصاء
وبحسبنا أن نورد في هذا الباب مثلين يسيرين: أولهما أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، قال في وصاة له لأسامة ابن زيد قائداً أحد جيوشه ولأصحابه، وهم مرتحلون إلى الحرب