وجه إلي أستاذنا الجليل (ن) كلمة طيبة تحت هذا العنوان بشأن ما نشرته في (الرسالة) في موضوع (الخطابة بين الحرب والسياسة)
وما بال السيد الجليل (ن) يخفي عنا اسمه، وقد دلت عليه عبارته وأشارت إليه مقالته، كما يدل فسيق المسك على المسك، ونضح الإناء بما فيه. وقلنا ونحن نقرأ مقاله ونتذوق بيانه: هذه نفحة من شيخ أدباء الجارة الشرقية والشقيقة العربية؛ طالعنا بها على بعد أمد، وطول عهد والتزام صمت؛ فوردة نماذج الروح لطافة، وتجري مع النفس رقة
يتهمني الأستاذ الجليل أنني قدرت في نفسي صحة حكاية وفود العرب على كسرى، وهي تهمه يشرفني أن أكون بها مقترفاً، ولها مكتسباً؛ فقد أوردت قصة الوفود في مقام يقتضيها وسياق يستدعيها، ولم أتعرض لها من حيث صحة الوقوع وصدق الرواية؛ فذلك لم يكن سبيلي في المقال؛ ولكنني سقتها - على علاتها - كما ساقها صاحب العقد الفريد في أول الجزء الثاني من كتابه.
وكان غايتي من سوق خطب الوفود في مقالي بالرسالة أن أستشهد على حذف بعض الخطباء وحضور بدائهم وسرعة خواطرهم في المقامات الضيقة التي يفرجونها ببيان ولسان وجدل، فلم أجد أحسن في الاستشهاد ولا أطوع في الانتقاد من خطب وفود العرب على كسرى
وابن عبد ربه نفسه الذي نقل أخبار هذه الوفود يمهد لها في أول كتاب الجمانة بقوله:(. . . فأنها مقامات فضل، ومشاهد حفل، يتخير لها الكلام، وتستهذب الألفظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوفود عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته يتزعون وعن رأيه يصدون). وهذا كلام من ابن عبد ربه له خبئ. . . معناه أنه مقر بصحة ما ينقله، وأن هذه الوفود الوافدة على ملك الفرس لم تكن خبرا ًمصنوعاً ولا حديثاً موضوعاً. وأن غيرها من أخبار الوفود صحيح في اعتبار المؤلف، وخاصة بعد قوله في التمهيد المشار إليه: (وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي. . . ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقدمه مرة، ويتحفظ من أمامه أخرى، أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة، أو غريبة من