في نحو ثلاثة وعشرين عاما استطاع محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما منح من قوة العقيدة. وصدق العزيمة. وبعد النظر وتأييد الله أن يحول العرب من جماعات مختلفة اللغة، مختلفة الدين، مختلفة الرأي، مختلفة الأهواء، تشعر بالضعة إذا قارنت نفسها بمن حولها، وبالذلة إذا رأت من في جوارها، ولا يفكر الفرد فيها إلا في نفسه، فان اتسع أفقه ففي قبيلته، فان فكر في قبيلة أخرى ففي الانتقام والأخذ بالثار، وشن الغارة للسلب والنهب - إلى أمة واحدة، متحدة اللغة، متحدة الدين، متحدة الرأي، يشعر الفرد فيها أنه من أمة أعزها الله بالإسلام. وفضلها به على الأنام. وجعلهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وليس ذلك بالكثير في تاريخ الأمم.
فان مات محمد (صلى الله عليه وسلم) ولم يتعد إصلاحه جزيرة العرب، فقد أعد أمة لإصلاح غيرها، ولسيادة الناس خير إعداد - حتى إذا وجهها قادتها نحو الفتح، أتوا بما حير علماء السياسة والاجتماع والتاريخ إلى اليوم - بسطوا سلطانهم على جزء كبير من العالم في أقل من عشر سنين، ولم يكن فتحهم تخريباً وتدميراً، إنما كان فتحاً منظماً أحكمت قواعده وأصوله - واستمروا ينتقلون من فتح إلى فتح، ومن ظفر إلى ظفر، مما يجعل الباحث يقتنع بأن نجاحهم لم يكن حظاً أتيح لهم، ولا مصادفة وقعوا عليها - إنما كان نتيجة مبادئ صحيحة اعتنقوها، ونفوس قوية ضمت صدورهم عليها - ومع ما عرض لهم من خلاف فيما بينهم كان من طبيعته أن يودي بأمثالهم من حروب داخلية ومنازعات سياسية وخلافات دينية، تغلبوا على كل ذلك، ولم يمنعهم من الظفر بعدوهم واستمرارهم في فتوحهم.
ثم هم ساهموا في كل شأن من شؤون المدنية، إن نظرت إلى الدين فقد دعوا إلى دينهم فدخل الناس فيه أفواجاً في هدوء من غير عنف، ولم يمض قرنان على فتحهم حتى كان أكثر البلاد المفتوحة على دينهم، ثم هو لا يزال ينتشر إلى اليوم مع انعدام الدعاة، وعدم حماية الدعوة، وان نظرت إلى اللغة رأيتهم هيئوا لغتهم لكل جديد ووسعوها - وهي البدوية الأصل والمنشأ. حتى أحاطت بكل مرافق المدنية إذ ذاك، وحتى زاحمت الفارسية