للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[يوم وقعت الواقعة. . .!]

للأستاذ علي الطنطاوي

أما رثاء الفقيد، وبيان جلال الرزء فيه، ومبلغ الحزن عليه، فتلك أمور كبرت عن أن يحيط بها (نظم من الشعر أو نثر من الخطب)، وبُعد منالها عن كاتب مثلي قصير القامة واليدين، فليكن همي أن أروي (ما رأيت وما سمعت)، ولقد رأيت عجباً وسمعت أعجب منه، وشاهدت أحوالاً ربما ظنها القراء الذين هم في غير بغداد مبالغة من نسج الخيال، ولكن الله يعلم وأهل بغداد يشهدون أن الذي أقوله حق كله، وأني ما زدت فيه ولكن نقصت منه، وأني لو ذهبت أتزيد فيه ما استطعت ولا بقي للخيال بعد الذي كان مجال

والذي رأيت أني نزلت من (الأعظمية) مبكراً على عادتي، فلم أرى على الطريق ما أنكر إلا حركة عند (البلاط) ما ألقيت إليها بالاً، حتى إذا شارفت المدرسة (ومدرستنا في ظاهر بغداد قريبة من باب المعظم) رأيت طائفة من الطلاب مجتمعين يتهامسون، ولكن الوجوه غير الوجوه، فلما أبصروني أسرعوا إلي يسألونني عن (الحادثة)، فقلت وأنا خالي البال: أي حادثة؟ إني ما سمعت بعد بشيء!

قالوا: لقد شاع في البلد أن الملك. . .

فاضطربت وتوقعت أن أسمع عنه نبأ لا يسر، ولقد أحببت الملك منذ شهور خلت حبّاً شديداً لم أكن أحبه من قبل مثله، وصرت أرى فيه معقد الأمل وباب الرجاء، فلما قال التلميذ ما قال خفق قلبي من توقع المكروه، وحب الاستطلاع، وروعة المفاجأة، وما يصيب المرء في العادة في موقف مثل هذا، وصحت بالولد أسأله: أن ما للملك؟ وبالغتُ في الصياح حتى روّعتُه، وأثرت أحزانه، فقال متعثراً يجرُ الحروف من فيه جرّاً:

- يقولون أنه. . . قد مات!

فقلت: أعوذ بالله، أسكت ويحك، إن هذا كذب، فلا تنطق به. . .

وأسرعت إلى المدرسة، والطلاب معي، وأنا أرجو وهم يرجون أن يكون الخبر كذباً. وتلبث بعض الطلاب قائمين على الطريق ينتظرون مرور الملك كما يمرّ كل يوم. فلما بلغنا المدرسة وجدنا كل من كان فيها من مدرسين وطلاب قد سمعوا الذي سمعنا، وهم بين مصدق ومكذب. ومرت ساعة ونحن على هذه الحال من القلق نسأل كل آت فلا نلقى عنده

<<  <  ج:
ص:  >  >>