أتيحت لي في الأعوام الأخيرة فرصة لدراسة شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي
أريد بتلك الشخصية، شمس الدين السخاوي الذي تملأ شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن
كان السخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين؛ وكان ظهوره في النصف الأخير من هذا القرن، حينما أخذت عوامل الانحلال تفت في هذا الصرح الباذخ الذي شادته دول السلاطين بمصر، وأخذت الحركة الأدبية التي كانت في النصف الأول من القرن التاسع في أوج عنفها وازدهارها، تميل إلى الضعف والسقم، وتستبدل ألوانها القوية الساطعة بألوان سطحية باهتة؛ فكان ظهور السخاوي وتلميذه ومنافسه السيوطي في أواخر هذا القرن نفثة أخيرة من نفثات هذه الحركة القوية التي لم تلبث أن خبت بعد ذلك وانهارت أمام الفتح العثماني
- ١ -
ومن حسن الطالع إننا نستطيع أن ندرس شخصية السخاوي على ضوء حسن؛ فلدينا أولاً معظم آثاره نقرأ فيها خواص تفكيره وأدبه؛ ولدينا ترجمته لنفسه وعدة أخرى من التراجم المعاصرة، نتتبع فيها حوادث حياته وظروف تكوينه
ولد السخاوي، كما يحدثنا في ترجمته لنفسه، بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة٨٣١ هـ (١٤٢٨م) في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان،