نعود إلى حديث البلاغة بعد أن صرفتنا عنه صوارف من توزع البال وفتور الطبع واعتلال الجسد. وكانت النية أن نترك بقية هذا الدفاع لينشر بجملته في كتاب؛ ولكن رغبة القراء ما زالت تلح على هذه النية حتى تناولت القلم وأخذت أكتب:
سبق القول في الصفة الأولى من صفات الأسلوب الجامعة الثلاث وهي (الأصالة) وما تضمنته من صفات الدقة والصحة والصدق والطبعية والوضوح. وكلامنا اليوم في الصفة الثانية منها وهي (الوجازة). وإذا كانت الأصالة هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق، فإن الوجازة بإجماع الرأي هي حد البلاغة. وإذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك:(قتل الإنسان!)، فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل، وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز، والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة؛ كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب، فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغة كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال؛ وكلاهما حسن في موقعه بليغ في بابه وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه. فإن الإيجاز الذي نعنيه أن يدل اللفظ على المعنى ولا يزيد عليه؛ فإن كان ناقصاً عنه فهو إيجاز التقدير والمساواة. إنما أقصد بذكر الإجمال والتفصيل إلى أن الأسلوب العربي الأصيل موسوم بالوجازة من أصل النشأة؛ لأنه أسلوب أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، تشعر بقوة، وتعبر بقوة، وتفهم بقوة. وقوة الروح والقلب، وقوة