العقل والخلق، تلازمهما قوة اللسان والقلم، أي البلاغة. والبلاغة الإيجاز، والإيجاز امتلاء في اللفظ، وقوة في الحبك، وشدة في التماسك. ولا ترى التميع والتفكك والانتشار إلا حيث ترى الضعف في شيء من أولئك. وملاك الإيجاز غزارة المعاني ووضوحها في الذهن، وطواعية الألفاظ ومرونتها في اللسان. وإنما يكون الغي والثرثرة ومضغ الكلام من جدب القريحة أو قلة العلم أو سقم الذوق أو نبؤ اللغة أو مجافاة الغرض. ومن الكلام المأثور: من ضاق عقله اتسع لسانه. اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين وخطب الأمويين وكتب العباسيين، فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز. أقرأ قوله تعالى في آخرة الطوفان:(وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين)، وقول الرسول (ص) في تقييد الحرية، وهو الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام:(إن قوماً ركبوا سفينة فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء. فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهكلوا)؛ ثم قول زهير في حروب عبس وذبيان:
رعوا ما رعوا منِ ظمئهم ثم أوردوا ... غماراً تسيل بالرماح وبالدم
فقضِّوْا منايا بينهم ثم أصدروا ... إلى كَلأ مستوبَل متوَخمّ
وقول معاوية لعائشة بنت عثمان وهي تثيره على قتلة أبيها:
(يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد. ومع كل إنسان سيفه، وهو يرى مكان أنصاره. وإن نكثنا نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا يكون أم لنا. ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين، خير من أن تكوني امرأة من عراض المسلمين) فهل تجد آية البلاغة في هذا الذي قرأت غير الإيجاز وما يصحبه من الجزالة والجلالة والبروز والسبك؟ وهل تجد مصدراً لهذا الإيجاز المطبوع غير القوي المشبوبة في النفوس والعقول والطباع؟ انحدر بعد ذلك رويداً إلى عهود الوهن والانحلال نجد التطويل وتوابعه من اللغو والحشو والسقط يزيد بزيادة الضعف، ويتقدم بتقدم الجهالة، حتى تسقط به على كتب الدواوين وعهود السلاطين فتدهش أن يكون في خلق الله من يملأ مائة صفحة بالفقر والأسجاع ولا يعني بها شيئاً لذلك كان الإسهاب أول ما