. . . ومن عجائب التصحيف أن أحدهم ربما يقع فيه فيخرج بما هو خير من الأصل، بتصحيح حسن للصحيح، فيقبل ذلك منه ويحتفظ عنه. . . كالذي يروى عن جابر بن هبة الله أنه قرأ على الحريري مقاماته - في سنة أربع عشر وخمسمائة. فلما بلغ قوله:
يأهلَ ذا المغنى وُقيتم شرا ... ولا لقيتُم ما بقيتم ضُراً
قد دفع الليُل الذي اكفهرَّا ... إلى ذراكم شَعِثاً مغْبرَّاً
قرأها (سغباً معترَّا). . . ففكر الحريري ساعة ثم قال: والله لقد أجدت التصحيف فإنه أجود، فرب شعثً غير محتاج، والسغب المعتر موضوع الحاجة. ولولا أني قد كتبت خطى إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قُرِأت علي، لغيرت الشعث بالسغب، والمغبر بالمعتر.
وربما كان يفضي التصحيف أحياناً إلى بركة ونفع، ويعود بخير على قارفه أو على من يتصل به. . . كالذي يروى أن تميم بن زيد القضاعي كان والياً على الهند، وكان في حبسه رجل يقال له خُنيس أو حُبَيْش؛ فلما طال حبسه أتت أمه قبر غالب بن صعصعة (أبو الفرزدق الشاعر)، فأقامت عنده حتى علم الفرزدق بمكانها فأتته وذكرت حبس ابنها، فكتب إلى تميم بن زيد:
فهب لي حبيشاً واتخذ فيه منَّة ... لغصة أمٍ ما يسوغ شرابُها
أتتني فمادت يا تميم بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليه ترابها
تميمَ بن زيد لا تكوننَّ حاجتي ... بظهر، فلا يخفى عليك جوابُها
فلما أتاه الكتاب لم يدر أحبيش أم خنيس، وفي حبسه عدة حبيش وخنيس، فأطلقهم جميعاً. . .
وحكى أبو الحسن بن الكوفي عن محمد بن عبيد عن شيخ له أن رجلا كان يقرأ على الأصمعي شعر النابغة فقال: كليني لهًّمٍ يا أميمة باضتِ. . . يدل ناصبِ. فقال الأصمعي: أما علمت - ويلك - أن كل ناجمة الأذنين تحيض، وكل سكَّاء الأذنين تبيض! فصار تصحيف الرجل فائدة لنا. ثم قال ابن الكوفي: لا أعلم تصحيفاً جر فائدة إلا هذا الحرف!