للمرحوم فقيد الأدب مصطفى صادق الرافعي في وصف الجمال وصوره والتعبير عن آثاره في النفس والروح طريقة ممتازة هو فيها طراز وحده بين أدباء العربية في جميع عصورها. فأنت من وصفه الجمال الإنساني أمام لوحات بيانية سحرية، تكاد الحياة والعاطفة والروح تنطق مجتمعة من خلالها. وهو في الوصف الروحي العاطفي للجمال الإنساني المادي، صاحب مدرسة سدت في فراغ الأدب ثغرة ما أغنت استعاراته وتشابيهه عن سدها شيئاً. ولا غرو فإن روح التعبير عن الجمال التي تسللت إلى أنامل فيدياس الإغريقي فأنشأت له من الصخر الأصم هياكل وتماثيل بشرية في عاطفتها وحيويتها وروحها، قد هبطت بعد أجيال على قلم الرافعي، فأوحت إليه تحفه الأربع في فلسفة الجمال والحب. وأنا في هذا الحوار الذي دار بيني وبين صديقي الرسام إنما أعرض لوناً جديداً حيوياً من أصباغ وصف الجمال البشري، للأستاذ الرافعي وحده فضل استكشافه وفرضه على الأدب، ولوددت أن الأدباء غمسوا فيه ريشاتهم حين رسمهم لوحات الجمال الإنساني. ولا بأس أن أحتكم في تذوق هذا اللون أو النفور منه إلى أدباء الرسالة ليقولوا فيه كلمتهم.
لي صديق فنان في الرسم، وريشته لسانه، وترجمانه ألوانه، أسمعته جملة لي في وصف أبي نواس وهي: لقد كان أبو نواس في حدائق الكرخ فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود وأوراد الخدود. ثم وقفت عند هذه الجملة منتظراً أن تروقه هذه الاستعارة. ولكنه زاد علي أن قال: صعب علي يا صديقي أن أتصور كيف يتجرد صاحبك أبو نواس من هيكله البشري ليتجسد في جسم فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود ووردات الخدود. وهل القدود مما تنبت الأيكة والخدود مما تتفتح عنه خميلة الورد؟
قلت دهشاً: أين يذهب بك يا صاح؟ إن هي إلا استعارة بديعة يلجأ إليها الأدباء حين يشبهون اعتدال القد بالغصن وحمرة الخد بالورد. قال: إن أصحابك يسيئون إلى الخدود الموردة والقدود المتأودة حين يشبهون الأولى بالورد والأخرى بالغصن. الغصن جميل والورد فتان ولكن جمالها مادي لا يقاس إلى جمال خد العذراء حين يتورد وقوام الحسناء حين يتأود.