لم تر البصرة بعد سيبويه من كان أعلم بالنحو وأحسن استنباطاً لمسائله، وتخريجاً لعلله من أبي عثمان بكر بن محمد المازني نسباً أو ولاءً على الخلاف في ذلك
ولم يشأ المازني أن يقصر همّه على قواعد النحو الجافة، شأن كثير من رجالات البصرة، بل أراد أن يكون وسطاً بين سيبويه والأصمعي، فاتجه إلى تحصيل اللغة والأدب برغبة صادقة، فأخذ عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأخفش والأصمعي، حتى صار إمام عصره، وحتى كان من تلاميذه المبردُ وعبد الله بن سعد الورّاق وغيرهم من كواكب العربية الساطعة
وكان - إلى تمكنه في النحو واللغة والأدب - على حظ عظيم من قوة اللّسن، وخلابة المنطق، وبراعة الاحتجاج، فما تعرّض لمناظرته أحدٌ إلا افتضح، لدقة مسلكه في الجدل، وامتلاكه مذاهب القول، وتصرّفه في ألوان البيان
وقد ناظر أحد شيوخه الأخفش في مسائل عدّة، فقطعه وتركه ساقطاً مغلّباً!
ولم ينس المازني نصيبه من الشعر فنظمه على قلة. ولشعره حلاوة، وعليه ماء ورونق، وإن لم يخرج في جملته عن نطاق شعر النحاة والفقهاء والمعلمين الذين يعتمدون على حسن الرصف وإبداع الصياغة أكثر من اعتمادهم على الخيال الموشى والتصوير البارع
فمن أبياته السائرة قوله في الحكم:
ثِنْتان يعجِز ذو الرياضة عنهما ... رأيُ النساء وإمْرة الصّبيان
أما النساء فإنهن نواشز ... وأخو الصِّبا يجري بكل عِنان
وله تعزية حسنة لبعض الهاشميين تفيض سلوى وتأساء على الكبد المقروحة والقلب الصديع، لما انطوت عليه من الذكرى النافعة، والحكمة البالغة التي تقود النفوس طيعةً إلى التسليم بقضاء الله وقدره. قال:
أني أعزيك، لا إني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
ليس الُمعَزَّى بباقٍ بعد ميِّته ... ولا المعزِّّى وإن عاشا إلى حين