كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع مفتش التعليم الأولي قادماً من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواءٍ في إحدى قدميه؛ فلما بلغ حيث كنا جالسين، ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعداً على مقربة
ومضينا فيما كنا من الحديث. نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى وحادثة إلى حادثة. وقال واحد من السامرين:(رحم الله سيدنا. . . . . . . . .!) فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول:
(سيدنا؟. . . رحمه الله وغفر له!)
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطراً من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئاً ذا بال في كلمة (سيدنا) قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته؛ فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعاً. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقي الشيخ أو تعويذة من تعاويذه
وكان له (كتّاب) يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأى العين. وذات صباح صحبني والدي إلى مكتب الشيخ نعبد الدليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئاً في مدرسة أولية بالمدينة حيث كنت أقيم عند خالي.