الآن تبين لنيتشه أن هاوية سحيقة تفصل بينه وبين شوبنهاور وفاجنر، وقد تقبل مذهب التشاؤم من قبل ليتخذه سلاحاً يصرع به التفاؤل الخادع، وقد بدا له أن نقد الوجود نقداً مصحوباً بالتشاؤم هو من واجب كل نفس خالصة، ولكنه لم يتقبل تلك النتائج السلبية التي استخلصها شوبنهاور من نظراته، ولم يتقبل العدم وسلب الحياة كغاية منشودة في الوجود. ولكن هذا المذهب العدمي الذي يستسر فيه الخطر، قد لا يكاد يقل مذهب التفاؤل المطلق عنه خطراً، فان جيلنا إذا نمت فيه الروح الراضية القانعة والذات الخانعة، كان هذا منه علامة الوهن والضعف والانحطاط. تنشأ في جيل تعب من الحياة وتصدع من الألم، ويرتاح إلى الراحة المتمثلة في العدم، وهكذا بدرت لنيتشه مسألة جديدة شغلته طيلة حياته. . . ما هو منشأ هذا الانحطاط الحديث؟ ما هي العلامات التي ساعدت على نشره. وما هو داء العدمية؟ وما هو دواؤه؟ ولم يكد يبلغ هذه النقطة حتى وجد أن حكمه على ذينك المعلمين قد تحول من الكل إلى الكل. وإذا برفيقيه اللذين كانا عدته في مكافحة التفاؤل يغدوان خصمين عنيفين له تثقل عداوتهما عليه وعلى المجتمع. وأدرك في النهاية أن ثباته على صداقتهما فيه خطر عليه كبير، فإذا لم يبرأ من هذه الصداقة ويخلص من تأثيرها ومرضها فانه لن يتاح له أن يقف أمام نفسه واعياً همسها فاهماً نجواها لابساً لباسها، ولن يتاح له أن يأتي الناس بإنسانه الكامل الذي أوحته إليه تعاليمه الجبارة فيما درس من عبقريات اليونان، فنفض عنه هذه الزخارف الصبيانية التي يتحلى بها أسلوب (فاجنر) ووجد فيه ذلك الدليل الأمين الذي ينفع المفكر الذي يبغي أن يدرس هذه النفس وينحدر إلى أعماقها. فهو اعتنق مذهب (فاجنر) بادئ ذي بدء ليصل إلى هذه النفس. والآن يحاول أن ينجو من حبائل هذا الساحر. (إن ما يشغلني الآن هو الشقاء. . . لم يكن (فاجنر) إلا علة من عللي). . على أن الأندية الأدبية قد ارتاعت لهذا الانقلاب وهذه المفاجأة. وأجمعت كلها