للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحملة على نيتشه العقوق الذي رأت فيه الناكث للعهود. وأخذت الأندية تبعث بتآويل شتى لمعنى هذه الانفصال. وكلها أزمعت القول بأن نيتشه كان في الحالة الأولى خير من تفهم (فاجنر) ووقف على دقائق مذهبه، وكان تحليله الأول له خير ما أخرجه ناقد محلل عن هذا الفنان. وعللت بأن ما عراه من مرضه العقلي الذي ساقه إلى قطع علاقاته مع المجتمع، هو الذي ساقه إلى التنكر لأصدقائه، ولكن هذا التعليل تعليل فاسد يفسد على الرجل كل فلسفة، وهو الذي كتب نظراته وأعطى مذهبه حراً مفكراً مختاراً. لم يكن مجنوناً ولا مخبولاً يوم طعن (فاجنر) ونال من مذهبه. أما أصدقاء نيتشه فهم يعزون ذلك إلى انخداع نيتشه بهذا الفنان. وهنالك آراء تقاربت تجئ طوراً مع نيتشه وتارة عليه. أما الذين يمقتونه فهم ينقمون منه هذه الشخصية أو هذه الأنانية التي قادته إلى نكران الصداقة، زاعمين أن شخصية نيتشه لا تود أن ترى ظلاً لشخصية غيرها، وشخصية نيتشه في الحقيقة شخصية ذاتية قوية، لأن الرجل يرى أن الشخصية هي كل شيء، يضحي في سبيلها بكل شيء ولا يضحي بها في سبيل أي شيء. فوجد نيتشه أن شخصيته تكاد تفنى في شخصية (فاجنر) وهو الذي التصق به واتصل لمجرد الوصول إلى نفسه وتفهمها. ولم يجعل منه رسولاً هادياً ولا مثلاً سامياً. . وهكذا أخذت هذه الشخصية الغالبة تضيق عليه ويضيق بها، وتخفي صوته الحقيقي، فليضح بكل شيء في سبيل ذاته. ولعل نيتشه أدرك أن القوم سيختلفون في تعليل هذا الانقلاب فكتب هذه الرسالة التي تنطوي على صفاته ولون تفكيره. (كنا صديقين غريبين. . . . . كنا كمركبين. كلاهما له غايته وله سبيله. . . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . وفي هذه اللحظة ذاتها قد رسا المركبان في مرفأ واحد، يغمرهما شعاع واحد، كأنهما مقدمان على هدفهما، وكأن هذا الهدف واحد عندهما، ولكن الضرورة التي لا تُدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. وقد نتراءى ولكن لا نتلاقى. كم لوحتنا الشمس والأمواج! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك. . ولكن صداقتنا القديمة تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا (في النجوم) حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين علٍى الأرض)

أليس في هذه الكلمة ما يجعل نيتشه بريئاً شريفاً بازاء خصميه وأنصار خصميه؟

نيتشه الفيلسوف!

<<  <  ج:
ص:  >  >>