للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في الأدب المقارن]

التفاؤل والتشاؤم

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

حب الحياة كائن في طبيعة كل حي، والرضى بها والاطمئنان إليها والإقبال عليها شيمة جميع الأحياء مادامت بنياتهم صحيحة وحاجاتهم حاضرة، والمرح واللعب غاياتهم الأخيرة مادامت غرائزهم مقضية اللبانات مشعبة المطالب. ولما كان الإنسان يمتاز بالخيال والفكر فإن له مطالب نفسية غير مطالب جسده الغريزية؛ يرضى ويرتاح إذا قضاها، ويقنط ويكتئب إذا أخطأها؛ وليس يشكو الحي أو يألم، وليس يسخط الإنسان أو ينقم، إلا أن يغدو وهو سقيم الجسم أو محروم الغريزة أو ممنوع المطالب. فحب الحياة والإقبال عليها والرضى عنها هي الحال الطبيعية العادية، وذم الحياة والعزوف عنها والسخط عليها حال طارئة استثنائية، نتيجة لامتناع وسائلها وعدم مواتاة أسبابها.

فالمتشائمون قوم قست الحياة عليهم فحرمتهم قليلا أو كثيراً مما حبت به سواهم، فثاروا عليها وكالوا لها قسوة بقسوة، وجزوها على حيفها بمرير الذم والتفنيد؛ فلسنا نرى بين المتشائمين الزارين على الحياة والأحياء رجلا صحيح البدن معتدل المزاج مجدوداً واثقاً بنفسه، بل كلهم ممن أكسبتهم الوراثة والنشأة والبيئة أجساماً معتدلة أو أعصاباً مختلة، أو ألحت عليهم الخطوب فحطمت مساعيهم، أو اقتنعوا بعجزهم عن مصاولة الأحياء في ميدان الحياة، فأورثهم ذلك حساً مرهفاً متيقظاً إلى مواطن الشر والقسوة والنقص في الحياة، فقعدوا يبرون لها وللمقبلين عليها السهام.

وفي الحياة مواطن للنقص لا تحصى، يهتدي إليها الناقمون عليها بلا عناء، وهي تعرض مثالبها عليهم وتضع أصابعهم على نقائصها؛ بيد أن المتفائل المعافى الجسم الناجع المسعى قلما يلتفت إلى تلك المساوئ، وإذا التفت إليها فبرهة قصيرة يأسى فيها ويعتبر، ثم يعود إلى ما كان فيه من استمراء لمتعات الحياة واجتلاء لمفاتنها، متعزياً بهذه المفاتن والمتعات عن تلك النقائص والمقابح، باذلاً جهده لتوفير السعادة لنفسه ولمن حوله، ومحو ما يستطيع

<<  <  ج:
ص:  >  >>