للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مجمع البحور وملتقى الأوزان]

للدكتور محمد عوض محمد

يحسن بنا كلما دخل الأدب العربي في طور جديد، أو ظهرت به بدعة جديدة، أن نقف لحظة لنحقق أمر هذا الطور الجديد، وهذا المنهج الذي يريد بعض الأدباء أن ينهجه. وبديهي أن الكائن الحي يجب أن يكون في تبدل أبداً وفي تحول. لكن يجمل بنا من آن لآن أن نقف قليلا لنحلل هذه الاتجاهات الجديدة، لكي نكون على بصيرة من أمرنا، ولكي نمشي على علم وهدى. فان بعض السبل الجديدة يؤدي إلى الخير، وبعضها لا يفضي إلى شيء.

وقد ظهر في عصرنا هذا ضرب جديد من الشعر، لم يعرفه الأوائل ولا الأواخر، ولا نعرف في شعراء الشرق من عرب وترك وفرس من نحا هذا النحو، ولا في شعراء الغرب في الأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني، ممن له شأن وخطر، من سلك هذا السبيل: وأن كان بين قراء (الرسالة) من يعرف شاعرا ذا شأن طرق هذا الباب من قبل. فقد يسرنا أن نعلم عنه ما جهلناه.

أما هذا الضرب من القريض (وقد سميناه مجمع البحور) فأنه يسوغ للشاعر في المنظومة الواحدة والموضوع الواحد، أن يجمع بين ما شاء من بحور الشعر، بلا قيد ولا شرط؛ فينتقل كما شاء وشاء له الهوى من وزن إلى وزن بلا سبب ظاهر وبدون أي قاعدة مفهومة أو غير مفهومة. فيبدأ منظومة بالخفيف مثلا، ويمضي فيه إلى بيتين أو إلى أبيات، ثم يعرج على البسيط فينظم فيه أيضاً بيتين أو ثلاثة. ثم يميل فجأة إلى الرمل ثم إلى الكامل. وهكذا لا يزال ينتقل من بحر إلى بحر. ويثب من وزن إلى وزن، والمنظومة واحدة والموضوع واحد.

ليس من شك في أن هذا الضرب من الشعر جديد. ولو أن المتنبي وهو الأمر الناهي في مملكة القريض، قيل له أن فلانا ينظم القصيدة الواحدة فيجعلها من بحور شتى، لقال لمحدثه: (يا هذا أن شاعرك مثله كمثل الطاهي الذي يخلط الحلو بالحامض، والمائع بالجامد، والرطب باليابس، والصلب بالشهد؛ ثم يرجو بعد هذا أن يكون في ما طهاه شفاء وغذاء).

مفهوم أن يكره الإنسان التقيد بالقيود من أي نوع كانت. والنفس تثور من آن لآن، تحاول

<<  <  ج:
ص:  >  >>