تأخذ الحرية لدى الشبان معنى لا يمكن أن تعرفه ولا أن تتوصل إليه أذهان الشيوخ، ويكون لهذه الكلمة من الوقع في نفوس المقبلين على ميادين الحياة البكر أكثر مما يكون لها عند الذين أشرفت عهودهم على النهاية واقتربت أعمارهم من الختام. فالحرية لا يمكن أن تكون موضوع بحث أو مثار نزاع إلا في الأطوار الأولى من حياة الأفراد، حيث تسبغ البكارة غموضها على كل شيء، وتبعث الطفولة أحلامها في كل معنى، وتقحم المثل الإنسانية تصويرها من كل جانب. وإذا صح هذا كنا بازاء نتيجتين: إحداهما أن الحرية تقترن بالجهل دائماً، وثانيهما أن العادة هي العدو الأكبر لما تؤدي إليه الحرية من صنوف العمل وضروب الإنتاج.
ولتوضيح هاتين النظريتين ينبغي أن نبدأ فنؤكد تلك الصلة الوثيقة بين الجهل والحرية عن طريق ما يسمونه في الفلسفة بالممكنات. أليست الممكنات أشياء مجهولة عند من يريد أن يضعها موضع البحث والتأمل؟.
نعم، هي كذلك بلا مراء ما دمنا بعيدين عن دائرة الوجود الحقيقي، وما دمنا مقتصرين على تدبر الاحتمالات النظرية بخصوص شأن من الشئون. وكان أرسطو في الفلسفة القديمة يفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل على أساس أن الأول هو الشيء الذي لا يزال في حكم العدم، وإن راودنا الأمل في وجوده بعد حين. أما الأشياء الموجودة بالفعل، فهي تلك التي تقوم من حولنا والتي تظلنا بظلها وتثقل علينا بوطأتها وتعيش في العالم الظاهر المحسوس. وهناك اختلاف كبير ينبغي أن نلاحظه بين العدم الخالص وبين الوجود بالقوة؛ فهذا على الرغم من أنه غير موجود، يقع في دائرة الإمكان وينظر الإنسان إليه نظرته إلى شيء سيأتي به المستقبل على وجه من الوجوه.
أما العدم، فهو حقيقة خالية من أنه مضمون، ويستحيل أن يكون في المستقبل بحال من الأحوال، ولا يملك في ذاته ما يعينه على أن يتحقق، أي أن يكون شيئاً ما. وعين هذه التفرقة التي وضعها أرسطو هي التي ترددها اليوم فلسفة الوجود على وجه يختلف قليلاً