نترجم اليوم لإمام عظيم من أئمة المسلمين، وعلم من أعلام هذا الدين، الذين أنجبتهم الأندلس فيمن أنجبت، فأثروا في العلوم الإسلامية تأثيراً، ونظروا فيها تنظيراً، وفصلوا ما أجمل منها تفصيلاً، وسجلوا من ثم أسمائهم في سجل الخلود تسجيلاً. .
هذا الإمام هو العالم الحافظ الأصولي المحدث الفقيه الأديب الثبت الثقة أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بالقاضي أبي بكر بن العربي. .
نجل هذا الإمام أبوان كريمان فاضلان معرقٌ لهما في الفضل والكرم، ومن ثم تداركته أعراق صدق وكان منه هذا النابغة العظيم، ولا جرم، فأن للوراثة أثرها، وللبيئة أثرها البالغ كذلك، هيأهما قدر من الله نافذ، وخط في أم الكتاب مسطور، وذلك أن أم المترجم له هي بنت أبي سعيد عبد الرحمن الهوزني صاحب صلاة الجماعة بقرطبة في عهدي عبد الرحمن الداخل وابنه هشام، وهو رأى أبو سعيد والد أبي القاسم الحسن الهوزني أحد العلماء الأعلام والسروات النابهين، وهو - أي أبو القاسم - والد أبي حفص عمر ابن الحسن الهوزني الكاتب البارع الألمعي. أما أبو المترجم له فهو أبو محمد عبد الله بن محمد أحد فقهاء أشبيلية ورؤسائها، وكان له عند المعتمد بن عباد أعظم ملوك الطوائف وعند أبيه المعتضد من قبله منزلة باسقة. . ولما انقضت دولة المعتمد بن عباد وسائر ملوك الطوائف باستيلاء يوسف بن تاشفين ملك مراكش على الأندلس خرج أبو محمد ومعه ابنه المترجم إلى الحج، وذلك سنة ٤٨٥هـ - سنة ١٠٩٢م - وسن المترجم له إذ ذاك زهاء سبعة عشر عاماً، إذ كان مولده سنة ١٠٧٥م، وقد تأدب المترجم بأشبيلية قبل ارتحاله مع أبيه وقرأ القراءات وسمع أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وغيرهم، وفي ذلك يقول من كتاب له:(حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثة لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشرة، وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية واللغة ثم رحل بي أبي إلى الشرق.)