للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[منطق اللغة]

للأستاذ أحمد أمين

قال صديقي: ألا تنظر إلى هذه الظاهرة الغريبة؟ أنا في مجلس يتجادل أحيانا فيما يعرض عليه باللغة العربية، وأحيانا باللغة الإنجليزية، فإذا تجادل باللغة الإنجليزية فالحجة تقرع بالحجة في إيجاز، وداخل حدود معينة. قل ان يكون هناك استطراد. وقل أن يكون لعب بالألفاظ، وقل أن يكون خروج عن الموضوع، وقل أن يكرر المجادل نفسه فيما يقول. فما أن يأتي بحجة جديدة وأفكار جديدة، وأما أن يسكت. وما هي إلا هنيهة حتى يؤخذ الرأي، ويفصل في الأمر. وذا تجادلنا باللغة العربية فهناك يطول الجدل، ويكثر الحديث، وكثيراً ما تقرع الحجة لا بأختها، ولكن بنت عمها، وكثيراً ما يستطرد من موضوع إلى موضوع لأقل مناسبة أو بدونها، وبعد طويل من الزمان يعودون إلى ما بدءوا فيه، وتثار مسائل كثيرة لا يفصل في واحدة منها، ويقول المجادل الآن ما قال من قبل، فيرد عليه صاحبه بمثل ما رد من قبل، وتتشعب الآراء حتى يصعب حصرها. وحتى ينسى أخيراً ما بدئ به أولا، ثم يؤخذ الرأي وقد مل المتجادلون، وسئموا الجدل، وودوا أن يفصل في الأمر على أي شكل. ولذلك قد يكون الرأي يؤخذ أخيرا شرا من الرأي يؤخذ أولا، بل قد يكون الرأي الذي قرر لا علاقة له بالمسألة التي أثيرت من قبل.

نعم يا صديقي. أنا أعتقد أن لكل لغة منطقا يخالف منطق اللغة الأخرى، وإن المسالة لا ترجع إلى عقلية المتجادلين وحدها، فقد يتجادل جماعة - كما ذكرت - باللغة الأجنبية، ثم هم أنفسهم يتجادلون باللغة العربية فيكونون في الأولى أكثر توفيقا، وليس من الصحيح أن ترجع هذا إلى ضعفهم في اللغة الأجنبية. وقوتهم في اللغة العربية، فهذا القول ينطبق تماما على من أجادوا اللغتين، وحذقوا اللسانين

وتعليل ذلك قد يبدو غريبا، فأن أول ما يتبادر إلى الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عن المعاني، وليست إلا مظهرا من مظاهر العقلية، فإذا كان التفكير صحيحا سليما كان التعبير عنه كذلك مادام صاحبه يجيد التعبير ويتقن اللغة، وإذا كان التفكير فاسدا كان التعبير عنه فاسدا متى وفق صاحبه للتعبير عما يريد، ولكن يظهر لي أن المسالة أعمق من ذلك وأن هناك تفاعل بين اللغة والتفكير، فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر

<<  <  ج:
ص:  >  >>