للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين العقاد والرافعي]

للأستاذ سيد قطب

- ٥ -

يقول العقاد في قصيدة (خليج ستانلي):

هذى معارض صنعة ... لله تبهر من وصفه

حي الجمال كما بدا ... أولا فدونك والجيف!

يقول هذا وهو يقف أمام هذه (المعارض) وقفة الفنان الحي، المتذوق لكل صنوف الجمال فيها، المتنبه لومضاته وخفقاته، لا تكاد تغرب عن نظرة ولا عن حسه لفته من لفتات الجمال في هذا الخضم العاري. ثم يسمع من ناحية أخرى صيحات (الخرف) التي لا تقدر هذه المعارض، وتنحي باللاتمة على بروز هذا الجمال، فيصبح بهم: هذه معارض للجمال يتملاها الأحياء المعنيون بالحياة، فمن شاءها فليحيّ الجمال فيها، ومن أبي أن يعجب بالحياة الخافقة فليس له إلا أن يوكل نفسه بالجيف الهامدة!

ولكن (الرافعي) لا يلقى باله إلى شيء من هذه اللفتات، فيأخذ منخره بين أصابعه ويزم شفتيه، ويشيح برأسه، ويروح يتصنع التأفف والمبالغة فيه، لأن هناك رائحة لا يطيقها في كلمة (الجيف!)

طيب!. ولا بد أن صاحبنا بلغ من إرهاف الحس - ولا سيما حاسة الشم - إلى درجة شديدة، تقرب من الدائرة المرضية فاللذين يبالغون في التأفف كثيراً ما يكون الإرهاق بلغ بهم إلى حد مرض الأعصاب، وهو عذر على أية حال. ولا بد أنه متجنب في أعماله الخاصة كل ما تنبعث منه أية رائحة!

ولكن ماذا عساك قائل، إذا رأيت هذا الرجل الذي يمسك منخره بأصابعه، لأن فناناً تهكم بخصوم الجمال، فجعلهم ممن لا يحسنون إلا ملازمة الجيف، إذا رأيته هو نفسه يصف فم حبيبته مستجملاً - وألق بالك إلى هذا - بأنه (حانة)!

أي والله. . . (حانة) هي فم حبيبته (الرافعي)، حانة ينبعث من روائحها ما ينبعث، ويفوح منها ما يفوح، ويعج بين جدرانها ما يعج. وفيها (من كل شيء) كما يفهم الرافعي وتلميذه الأستاذ شاكر. (من كل شيء) على حقيقتها وبمدلوها كما أوّلاه في تعسف واستغلاق

<<  <  ج:
ص:  >  >>