اشتهيت مرة أن اخرج إلى الظل، ورقاق بغيضة معشاب، وأن أجلس تحت شجرة عظيمة تميل على أفنانها من الري واللين، فقلت لصاحب لي:(إني في ارض واسعة سهلة، ولكني كرهت مقامي بها، وأضجرني منها أني لا أرى في فضائها الرحيب عوداً ثابتاً، ولا أسمع إلا صوت الرمال وهي تجري على رمالها وتوقع بعضه على بعض، وغدا شم النسيم، فتعال بنا إلى ناحية من الريف قريبة من بعض أرباض المدينة، وعسى أن أحمد بقعة في طريقنا، فأنزل بها وأسكنها، فقد اجتويت الصحراء كما قلت لك، وما أظن بي ألا أن الحنين إليها سيعاودني، ولكن البعد عنها سنة أو سنتين، يكون كالاستجمام، فما قولك؟)
قال:(وتخرج في شم النسيم؟)
قات (: ومالي لا أفعل؟ أهو حرام - علي وحدي؟)
قال): لا، ولكنه يوم تكثر فيه العربدة، وأولى بك أن تلزم دارك - كعادتك)
قلت (: يا أخي، الله يوسع لي في الأرض، وأضيق على نفسي! كلا، ولن نعدم مكاناً ننأى فيه عن ضجات السكارى والمعربدين، فاختر لنا مكاناً، وتوكل معي على الله)
فاختار (المرج)
وحملنا معنا كفايتنا من الطعام والشراب، وكنا أربعة - أو خمسة، لا أذكر - وركبنا قطار الزيتون وكان كالحمار النهاق البليد، يمضي ويتوقف، ويميل هنا وههنا، ولا يزال يصلصل، كأنما يقطع أرضا أو يصنع شيئاً يستحق هذه الضوضاء، وأنا أمرؤ خلقني الله أكره التثاقل والاسترخاء، وأحب أن أفرغ مما أكون فيه بأسرع ما أستطيع، فمشي قفز،، وأكلي لقم، وكلامي لغط، وخطى أشبه بما تتركه أرجل على الرمل، من فرط العجلة؛ ولا صبر لي على دلال امرأة، ولا أعرف التمهيد لشيء؛ فإنه لف أو تطويل لا موجب له؛ وما أكثر ما أحببت، وما أسرع ما سلوت، وكم قلت لامرأة:(يا صاحبتي لقد أحببتك، ولكنني لم أحبك ليوجعني رأسي وقلبي، فإن كنت لا تحسنين إلا تصديعي وتنشيف ريقي، وإلا هذا الذي تسمينه دلالاً، فلا يا ستي ويفتح الله عليك بغيري) وأدعه وأمضي، ولا أعود بعدها