أيا كان الألم الذي يعتصر قلب كل مصري لمنظر الدماء البريئة تراق، والأرواح الطاهرة تزهق، والبيوت العامرة تخرب، وقلوب الآباء والأمهات تقطر دما على فلذات الأكباد تخرج في الصباح ولا تعود في المساء!
أيا كان هذا الألم الدافق الحار في حنايا كل مصري لتلك الدماء البريئة التي أريقت في (يوم الجلاء) الذي أرادته الأمة المسالمة تعبيرا بريئا عن الحق الطبيعي في إبداء الشعور؛ وأراده المستعمرون القساة، معركة دموية تهرق فيها الدماء!
أيا كان هذا الألم، فإن له ثمنه الذي لن يضيع. فالدم هو عربون الحرية في كل زمان ومكان، والاستشهاد هو ثمن الكر أمة على تغير الازمان، وان لليوم لغدا، وان للحرية لفجرا، وان النصر لآت!
لا، بل أن ثمن تلك الدماء البريئة لحاضر، وأنا لنقبضه الآن
أن لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا، يكذب ويجبه أمته الكتاب المصريين والعرب أجمعين الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويدعون لهم في أمتهم، ويقربونهم إلى قلوب مواطنيهم، مأجورين أو مخدوعين. فالمخدوع في حق أمته لا يبعد كثيرا عن المأجور.
وان لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا يكذب ويجبه، أمته الزعماء والساسة من المصريين والعرب اجمعين، الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويؤيدون لهم جميع الخدمات التي تكفل النصر، دون أن يحصلوا في ذلك الوقت حتى على وعد قاطع بالجلاء، اعتمادا على شرف الضمير السياسي البريطاني المزعوم!
أن ثورة واحدة مدة ثمان وأربعين ساعة، إبان معركة العلمين، وتوالى الإمداد والذخائر، ثورة واحدة تعطل المواصلات، كانت كفيلة بترجيح كفة النصر، وانقلاب وجه الحرب كلها - باعتراف القادة البريطانيين والأمريكان في هذا الأوان - ولكن مصر لم تعملها، وثوقا بشرف هذا الضمير المزعوم. ولم تنتفع بهذا الظرف في قضيتها الوطنية، ضعفا، أو جهلا، من الساسة والزعماء المصريين!