سألتك: هل الشقاق طبع في العرب، فأجبتني أن الشقاق طبع في جميع الناس. وكما سقت إليك في سؤالي شهادة التاريخ على شقاق العرب في الجاهلية والإسلام، وفي البداوة والحضارة، وفي الدين والسياسة، وفي الشدة والرخاء، سقت إلىَّ في جوابك شهادته على شقاق اليونان والرومان والفرنسيين والألمان في كل أولئك! وقصر الشقاق على العرب، والخلاف على المسلمين، لم يخطر ببالي حين وجهت إليك سؤالي؛ فإن من يَقصر الخلاف في حياة الناس على بعض دون بعض، كمن يَقصر التقلب في حال الطبيعة على أرض دون أرض. والله العليم بكل سر والشهيد على كل أمر يقول:(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)؛ إنما قصدت بسؤالي أن أواضعك الرأي في طبيعة الشقاق العربي الذي لم يحسمه الدين ولم تخففه التجارب: أيصدر عن علة تزول، أم يصدر عن جِبلَّة تبقى؟ والذي رابني من هذا الشقاق ما أراه اليوم من تَمرده على الميثاق الجامع، وخروجه على الرأي الجميع، وتحديه للخطر المشترك، لشهوة تستبد ببعض النفوس، أو لنزوة تعصف ببعض الرءوس، لا لفلسفة تبرر سياسة الفرقة كما كان عند الإغريق، ولا لاجتهاد يتوخى سلامة الجماعة كما كان عند الرومان.
أما قولك يا صديقي إن العرب ليسوا بدْعاً من الأمم في الشقاق والانشقاق، فإني كنت أرفعهم في نفسي وفي رأيي فوق ذلك؛ لأن الأمة العربية إحدى أمتين اختارهما الله لإعلان دينه وإعلاء حقه، فبعث آخر رسله من بينها، وأنزل دستور شرعه بلسانها، ووضع ميزان عدله في يدها؛ فإذا هي أصاخت كغيرها إلى صوت الغريزة، واستجابت لدعاء الهوى، لم تكن حرية بقول الله فيها:(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ولا بقوله تعالى:(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس).
وأما تفسيرك العرب بالبدو في قول صديقك أبن خلدون، فلا يؤخر في التهَمة ولا يقدم في الدفاع، لأنك تعلم أن الموج من العُباب، وأن العرب من الأعراب، وأن العصا من العُصَيّة. والطباع قلما تتغير بانتقال صاحبها من سكني الوبر إلى سكني الحجر، ومن رعاية الإبل