للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النقد عند العرب وأسباب ضعفهم فيه]

- ٣ -

أما الأسباب التي دفعتهم إلى سلوك هذا النهج في نقد الشعر، فمن السهل تلخيصها في خمسة أمور لا يصعب عليك استنتاجها مما تقدم:

الأمر الأول ما ذكرناه من أن علماء اللغة والنحو لم يروا الفضل في الشعر إلا فيما يمكن الاحتجاج به، وحسبهم من ذلك البيت والبيتان.

الأمر الثاني - وهو من قبيل الأول - أن علماء البيان والبديع، ومنهم أكثر النقاد، كانوا يكتفون بالشطر أو البيت أو البيتين شاهداً على صورة البيان، أو نوع من أنواع البديع.

الأمر الثالث أن القصيدة العربية بطبيعتها مجموعة من مقطوعات تتفق في الوزن والقافية، وتختلف في المعنى والغرض. فإذا أخرجت مقطوعة ما من قصيدة وأدخلتها في أخرى تكون من بحرها ورويها لا تحس نقصاً في الأولى ولا كمالاً في الأخرى.

الأمر الرابع أن الشعراء ألزموا أنفسهم أن يكون كل بيت من أبيات القصيدة مستقلاً بمعناه عن غيره، وجعلوا من عيوب الشعر (التضمين) وهو أن تتعلق قافية البيت بما بعده على وجه لا يستقل بالإفادة. وربما مدحوا الاستقلال بين شطري البيت؛ فقد روى الجاحظ في البيان عن عمرو بن العلاء أن ثلاثة من الرواة اجتمعوا فقال لهم قائل: أي نصف بيت شعر أحكم وأوجز؟ فقال أحدهم: قول حميد بين ثور: وحسبك داء أن تصح وتسلما. وقال الثاني: بل قول أبي خراش الهذلي:

توكل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي.

وقال الثالث: بل قول أبي ذؤيب: وإذا تُرَد إلى قليل تقنع. فقالوا إنه لا يستغني بنفسه، لأن السامع لا يفهم معناه حتى يسمع النصف الاول، والصواب أن يقال قوله:

والدهر ليس بمتعب من يجزع

وكان من اثر استقلال البيت بمعناه أن كثر التقديم والتأخير في أبيات القصيدة حتى لا تجد قصيدة جاهلية يتفق راويان على ترتيب أبياتها.

والأمر الخامس أن الغلبة كانت للرأي القائل بأن الشعر إنما يكون أثره وبلاغه بما فيه من تغير الأوضاع وصور المجاز وأنواع البديع، حتى أن ابن رشد الحفيد المتوفى سنة ٥٩٥

<<  <  ج:
ص:  >  >>